سارعت الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٩٣م إلى رعاية اتفاق تاريخي يفترض أن يؤسس لعملية سلام كبرى في المنطقة العربية ينهي أطول استعمار معاصر، بموافقة حليفتها الدولة الوظيفية (إسرائيل) في التوقيع على اتفاق مبادئ، وهو ما عرف اتفاق "المبادئ في أوسلو"، غير أن الراعي والحليف كانا على دراية تامة أنه اتفاق أمني وظيفي يهدف لإيجاد سلطة شرعية في فلسطين ترتكز مهامها الرئيسة في نبذ العنف ومحاربة حركات المقاومة والعمل لاستئصالها، فكان اتفاق أوسلو الذي دعا إلى تشكيل قوة شرطية قوية تعمل لبسط الأمن على الأرض.
تستند الأجهزة الأمنية للسلطة في عملها إلى أنها وليدة من رحم اتفاق سلام سياسي بين دولة الاحتلال ومنظمة التحرير الفلسطينية، وتحدد وظيفتها الإدارية في فرض السيطرة ومنع كل أشكال المقاومة المسلحة ضد الأهداف الصهيونية، وعزز هذا الدور جملة من الاتفاقات: غزة- أريحا، وطابا عام ١٩٩٤م الذي سمي أوسلو الثانية، ومن الملاحظ هنا أن كل الاتفاقات المعززة لمبادئ أوسلو والتأكيد على النشاط الأمني كانت تبرم بعد جريمة صهيونية ورد فعل فلسطيني مقاوم، مثل مجزرة الحرم الإبراهيمي التي أعقبها عمليات الثأر بإشراف المهندس الشهيد يحيى عياش، وقد خلفت وراءها أكثر من ٤٠ قتيلًا صهيونيًّا.
وفي عام ١٩٩٦م وجهت السلطة ضربة استئصالية لحماس والجهاد الإسلامي، إذ شهد غزة والضفة أكبر عملية اعتقال وإنهاء كل عمل مسلح، حتى ظن القوم أنه لم يعد هناك شيء اسمه حماس والقسام والجهاد بعد اليوم، لكن سرعان ما تعافت المقاومة باندلاع انتفاضة الأقصى عام ٢٠٠٠م، وكانت انطلاقة جديدة لها.
اليوم تشهد مناطق الضفة المحتلة حالة استنهاض جديدة لروح المقاومة والفعل العسكري متجاوزة في ذلك وأدها أو استئصالها من جذورها، وقد لوحظ هذا الفعل المقاوم المكثف بعد معركة سيف القدس الأخيرة التي دبت في نفوس الشباب الفلسطينيين، المضطهدة إياهم السلطة بالاعتقال والملاحقة، والاحتلال من جهة أخرى بالقتل والاعتقال، فضلًا عن مشاهدتهم جرائم المستوطنين اليومية في القرى؛ روحًا جديدة لإحياء الفعل الثوري النضالي ضد كل أشكال الاحتلال.
تسعى دولة الاحتلال إلى تقوية السلطة الفلسطينية في الضفة أمام صعود المقاومة عبر:
- حشد الدعم الدولي للأجهزة الأمنية، وتمثل ذلك في مطالبات وزير حرب الاحتلال بيني غانتس للمجتمع الغربي وأمريكا بتقديم الدعم المالي للسلطة وحل أزمتها المالية.
- الموافقة الصهيونية على منح السلطة قرضًا ماليًّا من المقاصة.
- فتح الخطوط الساخنة من جديد بين جهاز مخابرات السلطة وجهاز المخابرات الأمريكية (سي آي إيه)، وإعادة فتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن، إلى جانب تنظيم سلسلة زيارات لمسؤولين أمريكيين في إدارة الرئيس بايدن للقاء رئيس السلطة محمود عباس برام الله، وتأكيد دعم أمريكا له.
جميع تلك المحاولات وغيرها تبذلها حكومة نفتالي بينيت من أجل تقوية السلطة، وضمان قيامها بوظيفتها الأمنية ضد المقاومة ومناصريها.
السلطة بكل مكوناتها -وفي مقدمتها مؤسسة الرئاسة والأجهزة الأمنية- لم تتوقف عن شن عمليات اعتقال وملاحقة وتوقيف لكل مؤيد للمقاومة في الضفة، وظهر ذلك بوضوح في مصادرة رايات الفصائل من مواكب استقبال الأسرى المحررين من سجون الاحتلال، وملاحقة منفذي العمليات والمساعدة في اعتقالهم.
في المقابل تتخذ المقاومة أشكالًا مختلفة في استمرارها، منها: إطلاق النار والطعن بالسكين والدعس بالمركبات، كما معظم العمليات الأخيرة التي نفذها: الشيخ الداعية الشهيد فادي أبو شخيدم بالقدس، ثم شهيد طولكرم، وشهداء جنين، والشهيد جميل الكيال، وليس أخيرًا بطلا عملية حومش الشقيقان جرادات.
يظهر الفعل المقاوم في الضفة على شكل عمليات فردية ذاتية، الأمر الذي يكسبها خاصية البقاء وفرصة النجاح، وتقييد قدرة الاحتلال وأجهزة السلطة على ملاحقتها أو إيقافها، وهو مؤشر مهم على أن المقاومة مستمرة ومتطورة، وقد نشهد في قادم الأيام عمليات تنظيمية مميزة فيها من دقة التنفيذ ومهارة الأداء ما يعجز الاحتلال عن استئصالها، والسلطة عن محاولة كبح جماحها.
ومما يدلل أكثر على فرص نهوض المقاومة ومؤشرات صعودها:
- إصرار حكومة الاحتلال على المساس بالمسجد الأقصى وتوجيه المستوطنين لاقتحامه.
- استمرار حكومة المستوطنين في تنفيذ مخططات التهجير العرقي لأهالي حي الشيخ جراح، ووداي الجوز خصوصًا، مع طرح بناء ست مستوطنات جديدة تهدد ٤٠٠ عائلة مقدسية بالترحيل.
- الاعتداء على الأسرى والأسيرات، وزيادة معاناتهم في سجون الاحتلال، والتنغيص عليهم بالقمع والتفتيش الليلي، مع دخول فصل الشتاء والأجواء الثلجية بالسجون الصحراوية.
- ومن مؤشرات صعود المقاومة دخول مقاومة غزة في أي جولة تصعيد قادمة ضد الاحتلال للأسباب السابقة الذكر، وبقاء الحصار مطبقًا على قطاع غزة والإمعان في معاناة سكانه، وتأخير عملية الإعمار.
خلاصة: سبق أن استطاعت السلطة والاحتلال إضعاف المقاومة في الضفة، غير أنهما هذه المرة يفقدان قدرتهما على السيطرة، وسيفشلان في منع صعودها، الأمر الذي يعني زوال الاحتلال وكل مرتبط به، وكما قيل "عبثًا تحاول؛ لا فناء لثائر".