هي الآن في قمة شبابها، على قدمين من عزم تسير، تتوهج عزة وتستبسل في مقاومة المحتل، أراها كما لو أنها كبرت فجأة، لكنها عانت أوجاع مخاض صعب، كادوا يجهضونها ألف مرة، لكنّ صرخة الحياة دائمًا كانت أقوى.
إنها ذاتها بصدقها وإخلاصها ونقائها البكر، إنها تصدح اليوم بما صدحت به حنجرتها المبللة بالندى في يومها الأول من عمر الحرية المديد، لم يتغير شيء سوى أنها تعبر عن مبادئها وأدبياتها بوسائل اليوم، بعد أن كانت الحيطان والمنشورات الورقية ومنابر المساجد وسائلها الإعلامية.
ما تزال بعنفوانها المحمدي الثوري الأنبل، وما تزال عنيدة كما لو أن صروف الدهر لم تعترِها، عنيدة في الحق وعلى الحق، لا تفهم إلا أن واحدًا زائد واحد يساوي 27.009كم.
لقد آمنتْ عميقًا حتى أسرتها الفكرة، وتملكها الهدف الأسمى، فكانت الابنة الأبر والأوفى، لأمها الأعظم والأجمل وعلى درب البر والوفاء، تناثرت الأشلاء، وتبعثرت الدماء، وامتدت طويلًا طويلًا قوافل الشهداء.
منذ بيانها الأول حتى بيان النصر الأخير كانت القدس وستبقى بحة صوتها، وفصاحة لسانها، وبلاغة حرفها، وهل أبلغ وأفصح من فكرة شهيدة، أو مؤمن استشهادي، أو غزيٍّ فدائيّ يقاتل بكل ما فيه من صدق على الكسر أبيّ؟!
لا تزال القدس إلى أن نتوجها بإكليل النصر والحرية على رأس أولوياتها، وذخيرة إستراتيجيتها، وبراعة تكتيكاتها، فيها ومنها ولأجلها تجهز السيوف والدروع.
لقد أشرت في مقال قبل ست سنوات وسم بعنوان: "لم تعد كتائب.. أصبحت جيش تحرير فلسطين" إلى أنها تخطت كل الحدود التي رسمت، فأبدعت وأبهرت.
لم تتغير الأسماء بقدر ما تغيرت الوقائع، فليس ما بعد صليل سيف القدس كما قبله، إلا درع القدس الذي يحميها من طعنات الغزاة المارقين.
بين سيفٍ ودرع نعيش مرحلة يتهيأ فيها الناس لوعد الآخرة، على حين يعبث آخرون بالقدس وسيندثرون في أمم غابرة.
لقد غلت المراجل في صدور الرجال، وتحركت ماكنة العمل بلا توقف، فلا ليل للنوم، ولا نهار للراحة، لقد أعدت الخطط، واشتعلت الهمم والعزائم، ووزعت الأدوار، واتخذ المقاتلون مواقعهم فوق الأرض وتحتها، ينتظرون إشارة من قيادة الأركان، ليهزوا بضربات المجد قلب الكيان.
هكذا اختارت المقاومة أن يكون وقع الحياة: استعدادًا حتى الاشتباك، واشتباكًا حتى النصر.
لقد سلَّ شعبنا السيف وقرر أنه لن يغمد، وصنع درع القدس وقرر أنه لن يكسر، وكيف تُكسر أضلاع رجال تعمرها آيات الله؟!
كيف يكسر درع صنعناه من أشلاء شهدائنا، وأوجاع أراملنا وثكلانا، وتكبيرات شعبنا وهو تحت القصف؟! كيف يكسر درع معجون بـ"الله أكبر"؟!
نحن لا ننسى أوجاعنا ولا نتجاهلها ولا نكابر، نحن فقط نمارس حقنا في الحياة؛ الحياة بلا احتلال، مهما كلفنا الثمن.
قد يسجل المقال انحيازًا واضحًا للمقاومة، وهذا صحيح، وقد يسجل ثقة كبيرة بالمقاومين، وهذا صواب.
فنحن نعرف معادن رجالنا، وندرك الفرق بين شعب يربي أبناءه في عرائن البسالة، وعابرين يربون أبناءهم في أوكار الوهم والأساطير، نحن ندرك النهاية المحتومة وننتظرها بشغف، وهم يخشونها ويحسبون لها ألف حساب؛ لذلك سننتصر ويهزمون.