بماذا تحتفل عواصمنا العربية "المحتلة"، وقد حوَّل الأعداء وطننا العربيَّ من حضن أم رؤوم إلى ظَهْر قطٍّ مغضَب؟
نحن جيل الحزن، نعيش في أعوام الرمادة، نفتتح عاماً جديداً سيصنع أحداثه الآخرون، ونحصد ثماره المُرَّة. فعلام المرح في زمن البكاء والترح؟!
كيف يحتمل الناس نشوة الفرح الباهت وأقنعة البهجة المستعارة، ترقص قلوبهم طرباً، وتشير أصابعهم إلى تلك الأشكال التي ترسمها المفرقعات المستوردة من الصين في سماوات بلادنا العربية البائسة، بينما إخوتهم القادمون من "حلب" يذوبون وجعاً، وتشير أصابعهم إلى الطائرات وهي تقذف حمم الموت، فيتوقف الزمن لحظة يفكر فيها "المقتول" فيما إذا كان هو الميت القادم أم أخوه!
هل من الحكمة أن نحتفل بعام ٍمضى من أعمارنا القصيرة بالمفرقعات والأضواء والموسيقى الصاخبة، أم علينا أن نقضي مطلع كل سنة جالسين بأدب التلاميذ أمام معلميهم –في زمن كان للمعلم فيه هيبة- ونجيب عن السؤال الجوهري: كيف غَبَرَ علينا العام؟!
الحكيم هو من يسأل نفسه عن كلِّ ساعة، بل كل دقيقة مضت من حياته، وفيما قضاها، عن هذه الأنفاس المخرَجة من كنوز الغيب والمهداة إلينا. عن الوقت الذي أقسم به الله تعالى في كتابه الكريم "والعصر، إنَّ الإنسان لفي خسر"؟!
يؤثر عن الفاروق عمر أنه كان يحاسب نفسه على الأنفاس، فهلّا حاسبنا أنفسنا على الشهور والسنوات التي تنقضي ونحن مغبونون بنعمتيْ الصحة والوقت؟!
إنَّ "داء الحياة" قديم بقدم الإنسان، وقد عبّر عن ذلك أبو العلاء المعري حين نطق بلسان الفيلسوف الشاعر:
داء الحياة قديم لا دواء له
لم يخل بقراط من سقم وأوصاب!
فبقراط أبو الطب، الذي شفى ما لا يحصى من الأمراض، مَرِضَ ثم مات.
ففيمَ الطمع؟ ولمَ الانشراح لأيام تفتح جوفها كي تبتلعنا ساعةً وراء ساعة، ودقيقة تلو أخرى؟ لماذا نريد أن نعيش أطول مع أنَّ امتداد الأجل مصيبة ورزء؟ وهل "أنا" إلا غابرٌ مثل ذاهب؟! كما تساءل شيخنا المعري من قبل.
ألا ترون أنَّ "أطول حياة وأقصرها سيَّان، فاللحظة الحاضرة واحدة عند الجميع، ومن ثم فإنَّ ما ينقضي متساوٍ أيضاً، فالفقدان إذن إنما هو فقدان لحظة لا أكثر، ذلك أنَّ المرء لا يمكن أن يفقد الماضي ولا المستقبل، فكيف يمكن أن يُسْلَب ما ليس يملك"؟
"إنَّ كلًّا منا لا يعيش إلا اللحظة الحاضرة، وما أضألها في الزمن. ما أقصر مدة المرء إذن في هذه الحياة، وما أصغر مجده بعد وفاته مهما امتد، فهو قائم على تعاقب قليل من البشر سرعان ما يموتون، ناهيك بمن مات منذ زمنٍ بعيد"!
فهلّا عشنا اللحظة الحاضرة التي ستصبح ماضيا فور انتهائها، ثم نكون أمام مجهول اسمه "المستقبل" لا يكشف من صحائفه المحجوبة عنا إلا بمقدار تلك اللحظة العابرة السريعة التي نلهث وراءها في صحراء الحياة، نعطش ثم نذوي فنموت.
ماذا سنفعل إذن ونحن نقف على أعتاب عامٍ جديد، ونرى ساعاته تسقط من أشجار أعمارنا مثلما تسقط حبات التفاح المشبعة بالحلاوة. إن أمامنا عاماً إذا لم نكن قد أحسنّا له التخطيط فسنكون قد خططنا فيه لفشلنا.
بماذا نستقبل العام الجديد؟ بنصفِ بلدان؟ بعواصم مستلَبة القرار؟ وقيادات منزوعة الإرادة؟ بأصابع مكسرة في سجون الاستبداد، بعيون مثقلة بالخذلان، وحرية "مشبوحة" في زنازين طغاة القرن الحادي والعشرين؟ أم نستقبله بمثقفين حربائيين، يتلونون، ويحركون رؤوسهم سمعاً وطاعةً لوليِّ الأمر، مثقفين غير حقيقيين وغير ملتزمين، بل مجرد قامات تزدهي ببريق الغرور، تعاني من العمى الأخلاقي، وتسقط عند أول اختبارات الإنسانية.
بماذا نستقبل العام المترع بالخوف والمجهول؟ أنستقبله بمشكلات أمتنا التي تحترف الشحناء والبغضاء، أمتنا التي كلها رؤوس، ولكنها رؤوس ثوم كما يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، أم نستقبل هذا العام بالبكاء والعويل على أمةٍ تبدو كزيتونة ناضجة جاهزة للسقوط؟!
إنني أستذكر هنا وبكل عرفانٍ قلبيٍّ، وصدقٍ بطوليٍّ أولئك العباقرة الذين أحسنوا استثمار الوقت، فكانت ساعاتهم سنوات من الإنجاز والتقدم. إنني أشعر بالغبطة والغيرة من تلك القامات التي فازت في كل السباقات مع الزمن، وتركت آثاراً خالدة تقهر النسيان وتنافح الضياع.
انهضوا يا إخوة الأمل، و يا رفاق الطموح، تجاهلوا البدايات الكسيحة، فالمستقبل لمن يثق بنفسه، انثروا بذوركم، وعلى الدنيا أن تحصد سنابل الخير، فلا كانت الهمم الهوامد، والنفوس الخوامد، والمروآت النيام، ولا كان أصحابها!
انهضوا، فإنما المرء راكبٌ ظهرَ عمره
على سفرٍ يفنيه باليوم والشهرِ
يمسي ويصبح كل يومٍ
بعيداً عن الدنيا،
قريباً من القبرِ!
لنغزل خيوط أعمارنا بالصفح والمحبة والعدل، ولنتذكر كم من الناس قضوا حياتهم في هموم ذاتية، وعداوة وبغضاء، ثم لفَّتهم الأكفان وصاروا رماداً. ولنعش اللحظة الحاضرة.