في الوقت الذي تحيي فيه حماس ذكرى انطلاقتها الرابعة والثلاثين، تعود دوائر صنع القرار الإسرائيلي أربعة عقود إلى الوراء، حين بدأت تظهر إلى العلن النيّات الأولى لهذه الحركة الفتية أمام نواظر أجهزة أمن الاحتلال وضباط جيشه، دون أن يخطر على بالهم في حينها أن هذه البدايات المنشغلة بأمور الدعوة والإغاثة ستتحمل مع مرور الوقت إلى بنية تحتية عسكرية تشكل تهديدا حقيقيا على دولة الاحتلال التي تحوز أكبر ترسانة نووية في المنطقة.
هي ذاتها مفارقات الأقدار التي تجعل السحر ينقلب على الساحر في لحظة فارقة من الزمن، تكررت مع الاحتلال الذي لم يتوقع في أشد كوابيسه حلكة أن تتنامى أمام ناظريه وبين ظهرانيه، وليس خارج الحدود، وبعيدا عن الجغرافيا، حركة مقاومة بدأت بعشرات من الشبان والشيوخ، وسرعان ما تصاعدت وتنامت، حتى باتت تنظيما ملء السمع والبصر، يتجاوز مئات الآلاف من العناصر والمقاتلين، إلى الدرجة التي باتوا يشكلون فيها جيشا شبه نظامي يمثل تهديدا للجيش الذي كان لا يقهر!
لمزيد من الدقة، لم تقف دولة الاحتلال مكتوفة الأيدي أمام تنامي حماس على مختلف الأصعدة، بل إنها خلعت قفازاتها، وحاربتها بكل ما أوتيت من قوة ووسائل وأساليب، لم تكن مكتوبة من قبل في أدبيات محاربة قوى المقاومة ومنظمات العصابات غير الدولانية، لكنها سجلت فشلا ذريعا في استئصالها، والقضاء عليها.
مع العلم أن الاحتلال نجح في بعض الأحيان بإحباط جهود حماس، داخل الأراضي المحتلة وخارجها، في ظل حالة الملاحقة المكثفة، ومتعددة الأشكال، التي تشنها على الحركة، بالتنسيق والاشتراك مع خصوم الحركة المحليين والإقليميين والدوليين، وهكذا استمرت المواجهة بينهما عبر تسجيل النقاط، دون أن يصلا بعد إلى مرحلة الضربة القاضية.
ليس سراً أن حماس بعد أربعة وثلاثين عاما تخوض مع الاحتلال حربا على الوجود، بعد أن استطاعت توجيه ضربات قاتلة في صميمه، واستهدفت جبهته الداخلية، وأفشلت نظرياته العسكرية القائمة على فرضية خوض الحروب في أرض العدو؛ ما دفعه بالأصالة عن نفسه، أو بالوكالة عن قوى ودول أخرى، لأن يكشر عن أنيابه في محاولة متواصلة، وغير متوقفة، لكبح جماح حماس عن الاستمرار في مسيرتها السياسية والعسكرية، تنجح أحيانا، وتتعثر أخرى، لأسباب ذاتية، وأخرى موضوعية.
حماس، وهي تدخل عامها الخامس والثلاثين، تبدو مدعوة لأن تكون أكثر انتباها وهي تخوض مواجهتها مع الاحتلال، من تجدد أساليبه، وتغير وسائله، ولجوئه بين حين وآخر لطرق جديدة، لم تستخدم من قبل، في محاولة منه لاستنساخ تجارب فلسطينية أخرى سابقة، صمدت في مسيرة المقاومة المسلحة، لكنها تقهقرت في ميدان التفاوض والمباحثات.. فالحذر الحذر!