صحيح أن من أبجديات العمل الأمني ألا يستثني أحدا من المتابعة والمراقبة، ولو كان من الدائرة الضيقة، سواء لحفظ الجبهة الداخلية من أي اختراق خارجي، أو خشية على العناصر الموثوقة من أي انزلاق في حبائل "العدو"، فضلا عن التعرف إلى ما تعيشه الدائرة المقربة من الأصدقاء والحلفاء من تطورات وأحداث، قد تلقي بظلالها السلبية أو الإيجابية على الوضع الداخلي لصاحب العلاقة، وهذه بديهيات معروفة لكل من ينخرط في العمل الأمني.
لكننا اليوم أمام حالة فريدة من نوعها تتعلق بالفضيحة التي ما زالت تطارد كيان الاحتلال وأجهزته الأمنية، عقب الكشف عن تورط شركاته العاملة في مجال الاتصالات وعبر تطبيقاتها التقنية في التجسس على عدد من الدول الحليفة والصديقة، بما فيها، بل وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي تفتح صفحات أجهزتها الاستخبارية أمام الموساد، بقدر ما يتطلب الأمر، ودون الإضرار بالأمن القومي الأمريكي.
مع العلم أن الحديث يدور عن عشرات الدول التي وقعت "ضحية" هذا التطبيق الذي تستخدمه وتبيعه الشركة الإسرائيلية، فضلا عن مئات الكتاب والصحفيين والشخصيات السياسية من وزراء ورؤساء وصناع قرار، ما يعني أن الاحتلال ضليع في إخضاع هذا الكم الكبير من الأفراد والمؤسسات والدول للتجسس والتنصت والملاحقة والمراقبة، سواء كانت هذه المعلومات مفيدة له بصورة مباشرة، لاسيما إن كانوا من الجهات المعادية له، أو من خلال بيع هذه المعلومات لدول وجهات أخرى، تخشى على أوضاعها الداخلية من الزعزعة وعدم الاستقرار.
ضجة كبيرة ثارت حول العالم بسبب التورط الإسرائيلي بهذا الجرم المشهود، دفع الولايات المتحدة، راعية الاحتلال الأولى، إلى أن تعلن عن وضع هذه الشركات الإسرائيلية المتورطة في قائمتها السوداء لأنها تضر بالأمن القومي لها، الأمر الذي أسفر عن تخوفات إسرائيلية من تعميم هذا القرار على دول أوروبية وغربية أخرى، ما يتسبب بخسائر مالية هائلة، فضلا عن الأضرار السياسية والدبلوماسية والأمنية الأخرى.
ما زلنا في بداية الطريق بعد، ولما تطوى صفحة هذه الفضيحة الإسرائيلية، لأن تبعاتها الأمنية والاستخبارية ما زالت متفاعلة، والمنظمات الحقوقية والقانونية العالمية تواصل تترا إصدار بياناتها ومواقفها التي تدين الاحتلال على هذه الفعلة الشنيعة، لكنها في الوقت ذاته منحت العالم فرصة للتعرف عن قرب على هذا الكيان الذي لا يثق بأحد، ولا يعترف بمواثيق الصداقة والتحالف والمصالح المشتركة.
مثل هذا السلوك المشين الذي ارتكبته دولة الاحتلال يمنح الفلسطينيين، ودون أن يبذلوا جهدا يذكر، منصة إعلامية وسياسية واسعة لتعريف العالم، كل العالم، بحقيقة هذا الكيان الذي يحصي عليهم أنفاسهم، ويعد عليهم خطواتهم، في خرق فاضح لخصوصياتهم، وهو اليوم يعمم هذه السياسة على حلفائه وأصدقائه، فأي ثقة به بعد اليوم من قبلهم؟!