ما يجري في القدس ليس مرتبطاً بشكل مباشر بالعملية التي نفذها ثلاثة شبان فلسطينيين يوم الجمعة الماضي، فالقدس تشهد هجمة إسرائيلية واسعة وتصعيدية غير مسبوقة منذ فترة طويلة، وخاصة بعد الهبة الشعبية في تشرين الأول 2015، حيث كثفت من إجراءات وممارسات وعقوبات جماعية ترتقي إلى جرائم الحرب.
ولكن حجم وشكل وشمولية واتساع هذه العقوبات الجماعية بعد هذه العملية هو الأبرز، حيث التفتيشات المذلة والمهينة والتي تعبث بكل أجزاء الجسد على مرأى كل الناس، والتي تطال الجميع دون استثناء من اطفال ونساء وشيوخ وشبان عدا عن عمليات الإغلاق الواسعة التي طالت كامل منطقة باب العامود لتصل إلى منطقة المصرارة ومداخل البلدة القديمة وداخلها، إغلاق بالسواتر الحديدية وقوات وأجهزة أمنية وشرطية وحواجز ثابتة ومتحركة وفرق الخيالة الشرطية والقوات الخاصة والكاميرات والمروحيات المحلقة، كلها في مراقبة المقدسي وانتهاك خصوصياته وإحصاء أنفاسه عليه، وكذلك إحضار حافلات إسرائيلية عسكرية شبيهة الى حد كبير او نفس الباصات التي يجري بها نقل الأسرى الفلسطينيين الى المحاكم العسكرية أو التنقلات بين السجون "البوسطة"، لكي تنقل سكان الضفة الغربية الذين لا يملكون تصاريح عمل او زيارة او يقيمون بشكل غير "قانوني" في القدس الى ما بعد المعابر الموجودة على مداخلها.
والهدف واضح هنا ضغط الناس الى أقصى درجة ممكنة، بحيث تريد لهم اسرائيل ان يعتبروا بأن مجرد العودة الى أوضاع ما قبل العملية الأخيرة إنجاز يجب شكر الاحتلال عليه، والهدف الأخطر هنا، وهو الذي يجب أن يتنبه له الجميع، بأن الاحتلال وضمن مشاريعه السياسية للقدس والضفة الغربية لتصفية قضيتنا ومشروعنا الوطني يطرح مشروع «السلام الاقتصادي» أي مقايضة الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني بتحسين شروط وظروف حياته تحت الاحتلال، وبما يشمل تحويل مدينة القدس الى عاصمة "أبدية" و"موحدة" لدولة الاحتلال، بل "محررة" بلغة المتطرفة ميري ريغيف وزيرة الثقافة والرياضة الاسرائيلية، وغير قابلة للتقسيم، بلغة المتطرف نفتالي بينت وزير التعليم الاسرائيلي، الذي ينوي تقديم مشروع للجنة الوزارية الخاصة بالتشريع التابعة للكنيست ، يمنع فيه أي عملية تقسيم للقدس في المستقبل، في أي تسوية تنتج عن مفاوضات سياسية بين (اسرائيل) والسلطة الفلسطينية، ويرى ان عملية التقسيم تلك تحتاج الى (80) عضو كنيست من أصل (120)، فهو يريد حسب زعمه بهذا العمل "الاستراتيجي" منع ضم أو نقل السيطرة على القدس الى سلطة اجنبية او غير اسرائيلية، وبالتالي منع «التنازل» عن أي من احيائها العربية.
وفي إطار الممارسة على أرض الواقع وبعد العملية الأخيرة على وجه التحديد، هناك هدف خطير سعى ويسعى الاحتلال الى تحقيقه، وهو ليس ربط التسهيلات والعقوبات الجماعية بأية اعمال مقاومة يقوم بها مقدسيون او غير مقدسيين، فالاحتلال من بعد كل عملية أخذت الطابع الفردي او المنظم، نفذ سلسلة من العقوبات الجماعية بحق اهالي الشهداء والمناطق التي خرجوا منها، ووفق مشروع ليبرمان وزير أمن دولة الاحتلال "العصا والجزرة" المناطق التي يجري خروج مقاومين واستشهادين منها تعاقب وتحاصر وتلغى تصاريح عمالها وتغلق قراهم ومدنهم ومخيماتهم ويمنعون من الحركة، ويجري التنكيل بسكانها، وتسحب اقامات وهويات عائلة الشهيد، لتصل الى أقاربه من الدرجتين الثانية والثالثة، كما هو الحال مع عائلة الشهيد فادي القنبر من جبل المكبر الذي نفذ عملية دهس بحق مجموعة من جنود الاحتلال في كانون ثاني2017، اما المناطق الهادئة والتي لا يخرج منها مقاومون ولا تمارس اعمالاً كفاحية وجماهيرية ضد الاحتلال، فتثاب ويقدم لسكانها التسهيلات في مختلف المجالات، سياسة "فرق تسد" ومشروع ليبرمان للعودة الى روابط القرى ونظام " المخترة".
العقوبات الجماعية التي حدثت بعد العملية الأخيرة أخذت مدى أوسع وأشد، بحيث يجري ضغط السكان الفلسطينيين الى أقصى درجة ممكنة، من حيث حجم واتساع وشمولية العقوبات التي شلت كل مرافق القدس وبما يمس المواطنين في عصب حياتهم اليومي، الجوانب الاقتصادية والتجارية وحركة النقل والمواصلات والوصول الى اماكن العمل والمشافي والمدارس وغيرها، والوصول الى المسجد الأقصى والصلاة فيه تحديداً في العشر الأواخر من رمضان وليلة القدر والجمعة الأخيرة منه، وبما يترك آثاره على المواطنين مباشرة، وجعلهم يطرحون أسئلة على أنفسهم وعلى غيرهم.
ماذا نجني من مقاومة الاحتلال، والتصدي لخططه ومشاريعه من أسرلة وتهويد لها ...؟؟ والمطلوب هنا ليس فقط التساؤل، بل المطلوب هنا نقل حالة الجدل والنقاش التي تدور بين المواطنين الى مرحلة اختراق وتطويع للوعي المقدسي خاصة والفلسطيني عامة، ومن ثم اشتباك داخلي تصبح فيه اعمال مقاومة الاحتلال والتصدي لخططه ومشاريعه التهويدية في القدس، هي سبب ما نحن فيه وليس جذرها الاحتلال في مرحلة هابطة سياسياً، تعاني فيها الحالة الفلسطينية من حالة ضعف وتفكك وانقسام وتشظي، بحيث لا يضحي الاحتلال المسؤول الأول عما يحدث للمقدسيين، الذين يصادر حقوقهم وينغص عليهم حياتهم بأدق تفاصيلها ،يقمعهم ويذلهم ويمتهن كرامتهم ولا يعترف بحقوقهم، وحتى بوجودهم، وبلغة الدكتور الإسرائيلي أمنون رامون من "معهد القدس لدراسة السياسات " "يخضع الفلسطينيون في القدس المحتلة، منذ انتهاء حرب حزيران العام 1967، لنظام تعسفي فرضته إسرائيل ولا يرى السكان الأصليون في المدينة. وبالنسبة لدولة الاحتلال، فإن هؤلاء المقدسيين هم مقيمون وليسوا مواطنين، وفي حال "غادروا" المدينة، بمعنى أنهم انتقلوا للسكن في منطقة أخرى بالقدس أو حتى إلى الطرف الآخر من الشارع، ولا يقع ضمن مسطح نفوذ بلدية الاحتلال، فإنهم يواجهون خطر عدم السماح لهم بالعودة إلى القدس، مثلما حصل لـ14 ألف مقدسي، خلال السنوات الماضية."
و"يرى رامون أن مكانة المقدسيين كمقيمين مهددين تسهم في انعدام الاستقرار وتفجر الهبات الشعبية، وذلك إضافة إلى انعدام الشرعية الدولية لإسرائيل في القدس. وشدد رامون في كتابه على أن "السيادة الإسرائيلية جوفاء بقدر كبير لأنها تتعامل مع الأرض في القدس الشرقية وليس مع السكان العرب".
ولذلك يجب أن نبقى حذرين ومتيقظين جداً من كل خطوات وإجراءات وممارسات ومشاريع الاحتلال ومخططاته في المدينة، فنتنياهو يخطط لإعلان منطقة باب العامود منطقة عسكرية مغلقة، ومن ثم الانتقال الى خطوة أخرى، النقاش يجب ان لا ينصب على توقيت او مكان عملية هنا أو هناك، فالجماهير الواقعة في إطار حالة القمع و"الطحن" التي تتعرض لها من قبل الاحتلال، يجب الا تترك وحيدة في وجه آلة " التغول" و"التوحش" الصهيوني لأن ذلك يعني أن تصاب بحالة من الإحباط وفقدان الثقة، وفي ظل غياب المرجعية الموحدة والاهتمام والدعم لصمودها وبقائها في قدسها وأرضها من قبل المنظمة والسلطة وكافة الفصائل وما تبقى من عرب ومسلمين شرفاء ، تدخل في حالة من الضياع و"التوهان" وتتلمس حلولها الفردية.
والمحتل يعمل بالمقابل في هذه المرحلة بالذات لنقل الجدل والصراع حول اعمال مقاومته والجدوى منها الى بيتنا الداخلي، وهنا مربط الفرس والجوهر، وستشهدون في القريب وليس بالبعيد، ارتفاع نبرة ووتيرة أصوات فئة تطرح أوراق عمل وأسئلة حول جدوى عدم المشاركة من انتخابات بلدية الاحتلال وجدوى مقاطعتها وحول المواطنة ومن هو الفلسطيني...وغيرها.
الاحتلال يهدف ليس فقط إلى نقل المعركة إلى داخل بيتنا الفلسطيني بل يريد منا أن نعترف بشرعية وجوده واحتلاله، وسيسعى إلى خلق تراتبية اجتماعية جديدة في القدس من خلال أطر وشخصيات يضخ عليها حنفيات مال وفير بتمويل مباشر منه، ومن العديد من الدول الأوروبية الغربية وأمريكا وحتى العربية والإسلامية، مرحلة خطرة تستدعي اليقظة والحذر، وعدم الانجرار إلى المعارك الجانبية والهامشية.