قلنا إن نتنياهو رجل "البروبوغندا" والعلاقات العامة والقدرة على إدارة الأزمات، وتوظيفها خدمة لمصالحه وأهدافه، فقد رأينا كيف وظف الكثير من القضايا خدمة لمصالحه، التطبيع العلني والرسمي والشرعي مع العديد من دول النظام الرسمي العربي، وفي المقدمة منها المشيخات الخليجية، وكذلك اللعب على وتر العامل الديني عند عرب الداخل الفلسطيني- 48-، فقد استغل مكانة الحج والعمرة عندهم لكي يتحول إلى "شيخ"، تهمه قضايا الحج والعمرة، بحيث سمح لسكان الداخل الفلسطيني -48- بالتوجه إلى السعودية لأغراض دينية وتجارية دون تأشيرة دخول.
وكذلك حرض بشكل سافر على أعضاء القائمة العربية المشتركة، ووصفهم بأنهم داعمو "الإرهابيين" و"القتلة" والمقصود هنا حركات المقاومة الفلسطينية، وكذلك وصف أعضاء المشتركة بأنهم غير مخلصين لدولة الاحتلال وليسوا صهاينة، ويمثلون خطرا وجوديا على دولة الاحتلال، وفي الجانب الأمني أقدم على اغتيال اثنين من قادة الجهاد الإسلامي الميدانيين: بهاء أبو العطا، ومحمد الناعم الذي تم التنكيل بجثته بطريقة وحشية ولا أخلاقية، ولم يتوقف عن القيام بغارات جوية وقصف بالصواريخ على سوريا، تحت يافطة وذريعة منع التموضع الإيراني هناك.
واستمر في التحريض على إيران وحزب الله، وكذلك شن حملة تحريض مركزة على تحالف أزرق وأبيض، متهماً إياهم بالتحالف مع القائمة العربية المشتركة داعمي "القتلة" و"الإرهابيين"، وليتمكن تحالف اليمين المتطرف من تحقيق تقدم كبير في الانتخابات المعادة للمرة الثالثة، بالحصول على 58 مقعداً، دون القدرة على تشكيل الحكومة..
هذا يعني أن الأزمة السياسية وحالة الشلل في دولة الاحتلال ستستمر، وللخروج من هذه الحالة مارس نتنياهو ضغوطاً كبيرة بالترغيب والترهيب على عدد من أعضاء تحالف أزرق أبيض من أجل أن يضمهم لتحالفه ولكي يضمن تشكيل حكومة يمينية مقلصة، خاصة أن هؤلاء الأعضاء والمقصود هنا أعضاء حزب "تيلم" الذي يترأسه الجنرال موشيه يعالون، فهم أقرب إلى نتنياهو من غانتس، وبالمقابل سعى غانتس وتحالفه لمنع نتنياهو من تولي رئاسة الوزراء في حال نجح في تشكيل الحكومة، عبر سن قوانين وتشريعات تمنع تولي رئاسة الوزراء من شخص متهم بملفات جنائية.
وكذلك سن قانون، يمنع تولى الشخص رئاسة الوزراء أكثر من دورتين انتخابيتين، وفي ذروة هجوم تحالف أزرق أبيض على نتنياهو، وضغطه على المستشار القضائي للحكومة والمحكمة العليا، من أجل مطالبة رئيس الكنيست، رجل نتنياهو "يولي أدلشتاين" من أجل تشكيل لجان الكنيست، لأجل التصويت على سن القوانين والتشريعات المقترحة من قبل تحالف أزرق وأبيض، حيث رفض أدلشتاين ذلك، بما في ذلك القرار الصادر عن المحكمة العليا الإسرائيلية، ليقدم استقالته الأربعاء، ولتأتي التطورات المتسارعة التي دفعت ب"غانتس" ليس لكي يستثمر هذه الظروف وتدفع به نحو الإطاحة بنتنياهو، حيث أوصت له القائمة المشتركة وحزب إسرائيل بيتنا بقيادة ليبرمان من أجل تشكيل الحكومة، ولكي يأتي انتشار جائحة "الكورونا" الوبائي بمنزلة المنقذ لنتنياهو، وليستغل انتشار هذا الوباء لصالحه والدعوة إلى تشكيل حكومة طوارئ لمجابهة هذا الوباء.
وغانتس الذي تمت التوصية له بتشكيل الحكومة يدرك تماماً أن هذا لا يعني القدرة على تشكيل الحكومة، فهناك من لا يقبل بتشكيل حكومة صهيونية بمشاركة مع القائمة العربية المشتركة أو دعمها من خارج الحكومة، وهذا قد يؤدي إلى تفكك تحالف أزرق أبيض، وقد رأينا كيف رفضت عضو الكنيست أورلي ليفي اباكسيس من تحالف العمل - جيشر- ميرتس التوصية لغانتس بتشكيل الحكومة..
ومن خلال قراءة غانتس للواقع الصهيوني، الذي يدرك هو كصهيوني يميني أن المجتمع الإسرائيلي غارق في اليمينية والتطرف والعنصرية، سيعاقبه إذا ما جرت انتخابات رابعة، بسبب قبوله التواصل مع القائمة العربية المشتركة، وقبول توصيتها له بتشكيل الحكومة الإسرائيلية القادمة، وبالفعل استطلاعات الرأي كانت ترجح حصول تحالف اليمين- اليمين المتطرف بقيادة نتنياهو على 40 مقعداً مقابل 30 مقعداً لتحالف أزرق أبيض، إذا ما جرت انتخابات للمرة الرابعة.
ولذلك وجدنا غانتس في ذروة هجوم نتنياهو على المؤسسات القانونية لدولة الاحتلال، وفي ظل ما كان يطرحه من شعارات بأنه لن يجلس في حكومة يقودها متهم بقضايا جنائية خطيرة، يقدم على خطوة دراماتيكية، ظاهرها أن ما دفعه لمثل هذا القرار، أي الموافقة تشكيل حكومة طوارئ، هو التوحد في إطار مجابهة انتشار فيروس "كورونا"، ولكن غانتس يدرك تماماً أن تحالفه ذاهب للتفكك، وأنه إذا ما جرت الانتخابات للمرة الرابعة، فإن تحالف اليمين- واليمين المتطرف بشقيه الديني والعلماني سيحقق فوزاً كبيراً، ولذلك كان قراره بالترشح لمنصب رئيس الكنيست بدعم من تحالف نتنياهو، حيث فاز بالمنصب بأغلبية 74 صوتاً.
ترؤس غانتس للكنيست سيفتح الطريق نحو زحفه باتجاه نتنياهو، لتشكيل حكومة طوارئ يسميها هو. وأنا أقول إنها حكومة نتنياهو، فهو سيتولى منصب نائب رئيس الوزراء ووزارة الخارجية، مع تولي أشكنازي وزارة الجيش بدل بينت، الذي سيتولى حقيبة التعليم مجدداً أو ربما الثقافة، وفي إطار التناوب سيعود أودلشتاين لتولي رئاسة الكنيست مكانه، ليكون رئيس الوزراء بدل نتنياهو.
ألف مرة قلنا إن المصالح هي من تتحكم في الانتخابات الإسرائيلية، وليس القيم والمبادئ، والذين تحالفوا مع غانتس أو قدموا له الدعم من أجل تشكيل الحكومة، الآن يتهمونه بأنه تنكر لكل القيم والشعارات التي رفعها، فلبيد زعيم حزب يوجد مستقبل "يش عتيد"، وموشيه يعلون زعيم "تيلم"، قالوا إن انتشار "كورونا" لا يبرر الدخول في حكومة طوارئ مع نتنياهو المتهم بتهم جنائية خطيرة، وكذلك تحوله إلى ديكتاتور يعطل مؤسسات الدولة، في سبيل مصالحه، والقائمة العربية المشتركة التي كال لها نتنياهو سيلاً من الاتهامات، أقلها أنها تدعم "القتلة" و"الإرهابيين"، والمقصود قوى المقاومة الفلسطينية، وأن قادتها غير مخلصين لدولة الاحتلال، وأنهم يشكلون خطراً وجودياً على وجودها، بدلاً من أن ينتقدوا أنفسهم ويراجعوا موقفهم فيما يتعلق بتوصيتهم لغانتس بتشكيل الحكومة، لجؤوا إلى لغة الذرائع والتبرير بأن غانتس لا يمتلك عموداً فقرياً سياسياً، وأن توصيتهم كانت من أجل إسقاط نتنياهو ومنعه من تشكيل حكومة يمينية استيطانية، وليس التوصية لغانتس.
نتنياهو نجح في فكفكة تحالف غانتس، وسيصبح رئيس حكومة الطوارئ، التي هي حكومته، وسيأتي بيائير لبيد لكي يكون زعيم المعارضة، بدل أيمن عودة زعيم القائمة المشتركة. ولتدرك المشتركة وكل المراهنين على غانتس أنه ليس جيفارا، وأن نتنياهو وغانتس وجهان لعملة واحدة، ولا يمكن الوصول إلى حلول وسط مع الصهاينة، ويجب التخلي عن وهم تغيير (إسرائيل) من داخلها، فنتنياهو وغانتس مع استمرار الاحتلال ومع الاستيطان واستمرار "الأبارتهايد" والعنصرية، ومع خطة صفقة القرن ومع الضم والتهويد.