دأبت الأوساط الأمنية والعسكرية الإسرائيلية في الشهور الأخيرة على ممارسة تحريض في أسوأ صوره على واقع المقاومة، الذي يسعى للنهوض من كبوته التي طال أمدها بفعل الاحتلال وأدواته المختلفة، في محاولة منه لتخويف السلطة الفلسطينية، وإشعارها أنها تواجه تهديدًا وجوديًّا في حال استطاعت المقاومة مواجهة مفاعيل كبح جماحها: الذاتية والموضوعية، ما يجعلهما معًا في مواجهتها، بزعم أنهما يواجهان تهديدًا مشتركًا.
في الوضع الطبيعي، بعيدًا عن حالة التشبث بالسلطة من أجل السلطة، وليس انطلاقًا من كونها جزءًا من مشروع تحرري؛ ينبغي أن ترى السلطة الفلسطينية صعود المقاومة من جديد إحدى أدواتها في الضغط على الاحتلال، على الأقل لإلزامه الحد الأدنى من تعهداته تجاهها، لكننا نعيش في وضع مأساوي بائس، جعل السلطة وأجهزتها ينظرون إلى مشروع المقاومة أنها عدو ينبغي مواجهته، وصولًا إلى استئصاله، وهو ما يسعى إليه الاحتلال، وكأنه نجح بذلك، يا للأسف الشديد!
ترتبط السطور السابقة بما تشهده مدينة جنين ومخيمها هذه الأيام من حملة أمنية تشنها السلطة الفلسطينية بتحريض إسرائيلي لا تخطئه العين، بزعم أن المدينة ومخيمها مصدر تحدٍّ للسلطة ونفوذها وسيطرتها، وقد تجلى ذلك في العديد من الوقائع الميدانية التي استخدمتها (إسرائيل) لتثبيت وجهة نظرها، وبث دعاية سامة ضد المدينة، لكنها وجدت من يشتري هذه البضاعة، بالشروع في سلسلة من الإجراءات الأمنية الميدانية، بجانب إطلاق جملة تصريحات لكبار مسئولي السلطة الفلسطينية تستعدي المقاومة، وتراها عدوًّا لا بد من مواجهته.
يصعب على القارئ أن يتابع الحملة الإعلامية والأمنية الإسرائيلية التي تستهدف جنين، مدينة ومخيمًا، بمنأى عن الإرث التاريخي الذي مثلاه أمام الاحتلال، الذي تحتفظ ذاكرته الجمعية بأحداث مؤلمة له، تبدأ بعدّ الفلسطينيين جنين معقل الشيخ الشهيد عز الدين القسام، حين روت دماؤه الزكية ودماء رفاقه أحراش يعبد، مرورًا بانتفاضة الحجارة التي تركت جنين فيها بصمات واضحة على صعيد انخراط المدينة والمخيم على حد سواء في فعالياتها الثورية والشعبية.
شكل التحول التاريخي في النظرة الإسرائيلية إلى مدينة جنين ومخيمها في ذروة انتفاضة الأقصى، وما عرف حينها بـ"معركة جنين"، التي مثلت انخراط الفلسطينيين، كل الفلسطينيين، في بوتقة المقاومة المسلحة، وخاضوا واحدة من أشرس معاركهم مع جيش الاحتلال، وكبدوه خسائر بشرية باهظة -وما زال يشكل رغم مرور قرابة عشرين عامًا على هذه المعركة- كابوسًا إسرائيليًّا يخشون أن يتكرر في أي لحظة.
بعد هذه الاستعراض يبدو جديرًا أن نعرف السبب الحقيقي للتحريض الإسرائيلي على جنين، لكن يبقى السؤال المعضلة في محاكاة السلطة للتخوفات الإسرائيلية ذاتها، وتترجم تخوفاتها هذه عبر حملة أمنية تستهدف الجميع، دون استثناء، دون أن تستطيع توفير ضمانة للاحتلال بعدم عودة جنين إلى سيرتها الأولى.