الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فها هو شهر رمضان قد مضى ثلثاه، وقد شرع لكم مولاكم (جل في علاه) في هذا الشهر عبادات جليلة، ورتب عليها الأجور الكثيرة، ومن هذه العبادات التي شرعها الله لكم في ختام هذا الشهر "الاعتكاف"، وهو عكوف القلب على الله، والتلذذ بمناجاته، والأنس به، وذلك بلزوم المسجد وعدم الخروج منه إلا لحاجة، والانقطاع عن الدنيا وأهلها، والتفرغ للصلاة والذكر, والدعاء وقراءة القرآن، وغير ذلك من أنواع القربات والطاعات.
والاعتكاف سنة ثابتة، وثبوتها جاء في الكتاب والسنة وعمل سلف الأمة، قال الله (عز وجل) في نهاية آيات الصيام: "وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا" (البقرة: 187)، وقد عهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) بتطهير بيته للطائفين والعاكفين، فقال (عز وجل): "وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ" (البقرة: 125).
وقد اعتكف (صلى الله عليه وسلم) هو وأصحابه وأزواجه، ولم يزل الحريصون على تطبيق سنة النبي (صلى الله عليه وسلم) يعتكفون إلى يومنا هذا؛ فعن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم قال: "إني أعتكف العشر الأول ألتمس هذه الليلة، ثم أعتكف العشر الأوسط، ثم أتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف".
وعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: "كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله (عز وجل)، ثم اعتكف أزواجه من بعده"، وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: "كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يومًا".
أيها المعتكفون، إنه يجب عليكم أن تعلموا شروط صحة الاعتكاف ومبطلاته وآدابه، فمن شروط صحته:
1- الإسلام، فلا يصح من كافر.
2- العقل، فلا يصح من مجنون ونحوه.
3- التمييز، فلا يصح من الصبي غير المميز، لأنه ليس من أهل العبادات.
4- النية، فلا يصح الاعتكاف بغير نية، لأنه عبادة لله (عز وجل)، وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكل امرئ ما نوى".
5- الطهارة من الحيض والنفاس، فإذا طرأ الحيض على المرأة حال اعتكافها وجب عليها الخروج من المسجد.
6- أن يكون الاعتكاف في مسجد تقام فيه الجماعة لئلا يخرج لكل صلاة، كما نص على ذلك أهل العلم.
أما مبطلات الاعتكاف فهي:
1- فقدان شرط من شروط الاعتكاف المذكورة آنفًا.
2- الجماع.
3- الخروج الكلي من المسجد لغير عذر، أما الخروج ببعض الجسم فلا يبطل الاعتكاف.
4- الردة عن دين الإسلام.
ثم اعلم _أيها المعتكف الكريم_ أن الاعتكاف فرصة عظيمة لتربية النفس، وجهاد الهوى، والبعد عن الشواغل والصوارف، وكثرة المطاعم والمآكل، والتفرغ لقراءة القرآن، والذكر وقيام الليل.
واحذر أن يكون حولك بعض الفارغين فتضيع ساعات يومك وليلتك في حديث جانبي، وأمور تافهة، بل احرص على إحياء هذه السنة العظيمة، وإحياء قلبك بدوام الطاعة.