قد يكون غريباً معرفة أن الطائرات المسيرة أو الطائرات دون طيار (درون) مضى عليها أكثر من 100 عام في الخدمة العسكرية! ولكنها حقيقة، فقد استخدمت بشكل بدائي في الحرب العالمية الأولى وكذا في الحرب العالمية الثانية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وكانت من طراز (ستاغ-1). وحتى عام 2000 لم تكن مسلحة، بل لأغراض الاستطلاع والمراقبة فقط، إلاّ أنها في عام 2021 أصبحت جزءاً من تكتيكات العمليات العسكرية، بل ومكوناً أساسياً في وحدات المشاة والقوات الخاصة في العديد من دول العالم.
ولم يعد استخدام الدرون حكراً على الدول بل أصبح بإمكان أي تنظيم عسكري استخدامها، عوضاً عن تصنيعها، وهذا يشمل حركات المقاومة الفلسطينية، التي أعلنت أنها تمتلك طائرات مسيرة من نوع أبابيل استطاعت تنفيذ عمليات استطلاع واستهداف مباشر، لعدد المواقع العسكرية الإسرائيلية خلال معركة سيف القدس في مايو 2021، وكانت قد أعلنت عن أول نسخة من هذه الدرون عام 2014 خلال معركة العصف المأكول.
وقد استعرض وزير الجيش الإسرائيلي "بيني غانتس" خلال مؤتمر تحضره عشرات الدول في سبتمبر 2021م؛ قدرات من سماهم "أعداء إسرائيل" في مجال الطائرات المسيرة التي يمكنها أن تؤثر في المصالح الحيوية الإسرائيلية داخلياً وخارجياً.
وبحسب تقرير للجنة الأمن القومي الأميركي للذكاء الاصطناعي فإن استخدام الذكاء الاصطناعي في الحرب يمثل ثورة تقنية تتخطى في أثرها اكتشاف البارود والسلاح النووي، وقد أوصت اللجنة بمضاعفة موازنات البحث العلمي لدعم توظيف الذكاء الاصطناعي في الصناعات العسكرية لتصل إلى 32 مليار دولار بحلول عام 2026، في حين هي الآن 1.5 مليار فقط.
وعلى صعيد الاغتيالات فقد استخدمها الجيش الإسرائيلي بشكل واسع ضد نشطاء المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة. ولعل محاولة اغتيال الرئيس الفنزويلي "نيكولاس مادورو" في 4 أغسطس 2018 باستخدام درون تجارية محملة بمتفجرات، في أثناء إلقائه خطاباً في احتفال العيد الوطني ال81 للحرس الوطني أظهر خطورتها لتصبح "درون انتحارية". ومؤخراً محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي "مصطفى الكاظمي" فجر 7 نوفمبر 2021 في مقر إقامته وسط المنطقة الخضراء الأكثر تحصيناً في بغداد، باستخدامه ثلاث طائرات درون.
وبعملية بحث بسيطة على موقع أمازون للتجارة الإلكترونية، يمكن لأي إنسان شراء درون مدنية بمبلغ يتراوح بين 65-3000 دولاراً بحسب مواصفاتها وإمكانياتها في التصوير وعلو الطيران ومدته.
وبالإضافة إلى استخدام الدرون المكثف لأغراض الاستطلاع على مدار الساعة في قطاع غزة، فقد شهدت مسيرات العودة وكسر الحصار (2018-2019) استخداماً بارزاً للدرون من نوع (كواد كابتر) في قمع المظاهرات بالغاز، واستخدمت نفسها في قمع مظاهرات فلسطينية بالضفة الغربية ضد الاستيطان. وقد شهدت ليلة 4 يونيو 2021 مناورة موسعة للعشرات من الدرون الإسرائيلي في عمق مدينة غزة، تمهيداً للمواجهة القادمة.
ولعل الحرب بين أرمينيا وأذربيجان، على أراضي "ناجورنو كاراباخ" عام 2020م وكذلك الحرب الأمريكية على طالبان في الخمس سنوات الأخيرة قد مثلت انطلاق حقبة حروب الدرون بشكل عملي، فقد استخدمت أذربيجان نحو 800 درون انتحارية من نوع "هاروب" وثلاثة أنواع أخرى من إنتاج إسرائيلي.
وقد أظهر عرض فيديو توثيقي لتلك العمليات الأذرية ضد القوات الأرمنية قدرة الدرون على استهداف القوات البرية والمركبات القتالية بدقة عالية، وبرزت إمكانياتها في تدمير وحدات المدفعية والدفاعات الجوية، بالإضافة إلى قدرتها الاستثنائية في استهداف خطوط الإمداد والخدمات اللوجستية للجيش الأرميني.
وقد أظهر عرض ترويجي على يوتيوب لشركة صناعات الفضاء الإسرائيلية IAI للنموذج الانتحاري من درون "هاربي المصغر" Mini Harpy (وهو الذي استخدم فعلياً في الحرب الأذرية-الأرمينية). فقد بلغ طوله وعرضه نحو مترين ونصف المتر، ووزنه 135 كيلوغراماً بالإضافة إلى رأس حربي يزن 32 كيلوغراماً، مع قدرة على السفر لأكثر من 500 كيلومتر، ويمكن إطلاق "هاربي المصغر" من منصة مثبتة على شاحنة تحمل 20 درونا، بحيث يمكن إطلاقها أيضاً على متن سفينة أو طائرة باستخدام 3 بطاريات، بما يعني 60 درونا دفعة واحدة متتابعة.
لقد أثبتت الحروب الميدانية أن هجوم درون انتحارية واحدة على موقع ما يصعب صده، ولذا فإن هجوم سرب من درون انتحارية على الموقع نفسه سوف يكون من المستحيل مواجهته. وهذا يجعل من كل التحصينات التقليدية للمقاتلين كالخنادق والأبنية الأسمنتية مقابر محتملة ومدافن بلا شواهد.
من الناحية الاقتصادية تعد طائرات الدرون الأقل كلفة على مستوى سعر الإنتاج والتشغيل. فسعر 1000 درون عسكرية هو أقل من أي طائرة مقاتلة، وتكلفة استهلاك الوقود لمئات الطلعات العسكرية بالدرون هو أقل من رحلة لطائرة إف 16 واحدة. أما عن تكلفة التدريب فإنها لا تقارن مع تكلفة تدريب طيار واحد لمقاتلة حربية واحدة، وحتى زمن التدريب المطلوب هو أقل بكثير، حيث إن ثلاثة أشهر في الجيش كافية لتدريب قائد درون محترف.
وتشير المعلومات إلى أنه حتى عام 2000 كانت الولايات المتحدة الأمريكية تحتكر صناعة الدرون وتطويرها، ولكن بحسب تقرير للكونجرس صدر عام 2012؛ فإن نحو 76 دولة تعمل على تطوير وتصنيع 900 نظام من الدرون.
ولعل انخفاض الكُلفة السياسية لاستخدام الدرون في العمليات العسكرية في عمق العدو أو الطرف الآخر، هو ما يجعلها مفضلة لدى متخذ القرار السياسي لتنفيذ أي هجوم. ولكن مما لا شك فيه أن استخدام الدرون في عمليات عسكرية داخل المدن لا يضمن تجنب وقوع ضحايا مدنيين، وذلك يرجع للتحكم عن بعد وضعف قدرتها على مسح محيط عملها، وتركيزها على هدف واحد فقط في أثناء الهجوم، وهي أشياء عادة ما يقوم بها العنصر البشري في الطائرة الحربية.
لقد بدأت حروب الدرون فعليًّا على مستوى دول وحركات مسلحة، وهي اليوم أكثر ترشيحًا لتصبح المظهر الأبرز للمواجهة القادمة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي كمًّا ونوعًا.