يرصد المراقبون والمتخصصون في العلاقات الدولية عوامل الفناء والبقاء وخاصة في الدول العظمى، فلم يظهر على الساحة الدولية منذ العصور الوسطى كقوة عظمى سوى بريطانيا لعدة قرون ثم القطبية الثنائية بين موسكو وواشنطن خاصة عقب الحرب العالمية الثانية وقد شملت الحرب الباردة كل الساحات وكل القارات وكان ذلك سببا في إحكام واشنطن سيطرتها وقيادتها للغرب بعد أن تهادت الامبراطورية البريطانية وانطوى السلام البريطاني وحل محله السلام الأمريكي والهيمنة الأمريكية. ولا شك أن القوة الأمريكية خلال الحرب الباردة قد كسبت وخسرت خاصة في أزمات فيتنام وخليج الخنازير وغيرها والمؤكد أن القوة الأمريكية تربعت على عرش قيادة العالم وانفردت بها عقب انهيار الاتحاد السوفيتي وكانت أحداث 11 سبتمبر مظهرا من مظاهر الانقضاض الأمريكي كالأسد الجريح على العالم الإسلامي يضاف إليها موجات العولمة التي حولتها واشنطن إلى مطية القيم والحياة الأمريكية أو الأمركة.
وقد أثار الجدل حول بقاء الولايات المتحدة كقوة عظمى من عدمه الآن تصريح وزير الدفاع البريطاني في أول سبتمبر الماضي والذي قال فيه إن الولايات المتحدة لم تعد قوة عظمى، فالدليل على ذلك أنها لم تنسق مع حلفائها قبل الانسحاب.
وقال كذلك إن الفوضى للانسحاب الأمريكي من أفغانستان دليل آخر على أن الولايات لم تعد دولة عظمى.
ولا شك أن الجدل محتدم حول هذه الموضوعات منذ سنوات طويلة وفى العادة أن الدول العظمى تطوى صفحتها مع الزمن فقد انتهت دول عظمى كثيرة عبر التاريخ كما أن الامبراطورية السوفيتية بقيت 72 سنة فقط ثم انهارت وإذا كان صعود الولايات المتحدة كقوة عظمى قد بدأ منذ الحرب العالمية الثانية فإن هذه اللحظة قد سبقتها عقود طويلة من التحضير لها حيث سيطرت النزعة الانعزالية على الشعب الأمريكي خاصة خلال الحرب العالمية الأولى وتدخل الولايات المتحدة رسميًّا في الحرب عام 1916 ثم هزيمة مشروع ودرو ويلسون في الكونجرس الأمريكي في الانضمام إلى عصبة الأمم وانقسم المجتمع الأمريكي بين فريقين فريق انعزالي يرى أن الولايات المتحدة لا تقوى على أن تلعب دور الدولة العظمى خاصة على المسرح الأوروبي والفريق الآخر هو توسعي الذى كان يفوق بعد حسم الحرب الأهلية الأمريكية عام 1966 إلى دور القوة العظمى ولكن انتصر الفريق الانعزالي على الفريق التوسعي وحرمت الولايات المتحدة من الظهور على المسرح الأوروبي في عصبة الأمم وأخذت تعد العدة للانطلاق إلى العالمية حتى دخلت الحرب العالمية الثانية مع الاتحاد السوفيتي لإنهاء القوة الألمانية.
وأنصار ذبول القوة العظمى الأمريكية يستندون إلى عدد من المؤشرات منها التفاوت بين قدرات الولايات المتحدة وبين قدرتها على ترجمة هذه القدرات إلى نفوذ سياسي ومنها أيضا انحصار الدور الأمريكي في الشرق الأوسط والتركيز على الصين والمحيط الهادي أما انصار بقاء القوة الأمريكية فيرون أن الولايات المتحدة هي الدولة العظمى الوحيدة في العالم وأن عوامل الفناء تعمل عملها بشكل ظاهر وأسرع مما كان سابقا ولكن تظهر نقاط الضعف للولايات المتحدة أيضا بسبب ظهور قوة بازغة مثل إيران وعدم اعتراف واشنطن بها وأنا أرى أن القوة الأمريكية لاتزال عظمة وأن مقومات العظمة للقوة الأمريكية قائمة ولكن هناك عوامل ضعف لتآكل هذه القوة وهى في نظري ثلاثة.. العامل الأول هو أن واشنطن راهنت قوتها بمصير (إسرائيل) ففقدت المصداقية وانتهكت القانون الدولي كما أن انتهاكها للقانون الدولي الإنساني في افغانستان قد دفع المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية وواشنطن ليست عضوا فيها إلى إجراء تحقيق في الجرائم الأمريكية في أفغانستان واضيف إلى ذلك الجرائم الأمريكية في كل مكان وأخطرها التوحش الأمريكي والإسرائيلي في العالم العربي ضد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وقد رأينا كيف أن ترامب كان يتصرف في الجولان واقطاعها لـ(إسرائيل) كما ولو كانت أراضي أمريكية.
أما العامل الثاني فهو إعادة ظهور العنصرية البيضاء الأنجلوسكسونية وهى الطبقة التي تكون منها الموجة الأولى من المهاجرين الأوروبيين في نهاية القرن الخامس عشر وهى تشكل حوالى 20% من الشعب الأمريكي وتستحوذ على المناصب والثروات والمقدرات وقد رأينا تجليات هذه العنصرية ضد السود والمسلمين واللاتين ولم تشفع ولاية أوباما الأسود في تجاوز هذه العقبة الهيكلية في المجتمع الأمريكي.
وأما العامل الثالث والأخير فهو تراخى عناصر النظام السياسي الأمريكي والدليل على ذلك ظهور ترامب من خارج المؤسسات وتشجيعه على مهاجمة مجلس النواب والشعبية الطاغية التي يتمتع بها ضمن تيار الفوضى وهو الشعبوية وهو لذلك يتحدى بايدن الذي عجز على أن يضع حدا بحياة ترامب السياسية.
أما مسألة الانسحاب من افغانستان وتبخر الجيش الأفغاني وفرار الرئيس والفوضى التي لحقت بالولايات المتحدة في مسألة إجلاء الرعايا فإنها تفتح الباب مرة أخرى على قرار فساد غزو أفغانستان والعراق ولابد أن تصارح الولايات المتحدة نفسها في علاقتها بكافة المنظمات الإرهابية فى سعيها الحسيس إلى ضرب الإسلام والمسلمين بالمسلمين فأوقعها الله فى شر أعمالها.
وأخيرًا لا بد أن تتوقف الجرائم الأمريكية التي لا تتفق مع المثل الأمريكية التي تتشدق بها وأن تكف عن دعم وحماية الجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين والعرب وقد عبر السفير السابق الأمريكي في (إسرائيل) عن هذه الحقيقة مؤخرا بأن صرح بأن واشنطن تتستر على الجرائم الإسرائيلية احتراما لاتفاق أوسلو الذي أضفى شرعية على هذه الجرائم.
فإذا كانت هذه عقلية الدولة العظمى وتجرؤها على القانون الدولي وإشاعة الفوضى في العلاقات الدولية فإن ذلك يؤدى إلى تآكل القوة الأمريكية خلال سنوات ولكن المؤكد أن جوهر النظام الأمريكي يتسم بالديمقراطية ولا يمكن أن نتصور أن الصين مثلا أو روسيا تحل محل الولايات المتحدة قريبا في قيادة العالم.