يقف أمام صناديق بهاراتٍ بلاستيكية دائرية صغيرة متراصة فوق بعضها على قاعدة خشبية بمدخل محله القديم في سوق الشيخ رضوان بمدينة غزة، تفوح رائحة البهارات وهو يُعبِّئ ويزن لأحد الزبائن، خلف تلك الرائحة خبرة طويلة أخذت من عمر الخمسيني جهاد عبده ستة وثلاثين عامًا في صناعة البهارات.
يعد عبده المكنى بـ"أبي علي" من قدامى صانعي البهارات في غزة إذ يعمل في هذا المجال منذ سبعينيات القرن الماضي، ولا تحتاج إلى البحث كثيرًا عنه في سوق الشيخ رضوان غرب مدينة غزة، فاسمه وصيته يسبقانه.
ينظر إلى السوق الواسع من حوله وقد بدت حركة المتسوقين ضعيفة منتصف الأسبوع، لكن تأخذك عيناه وصوته إلى بدايات عمله: "كنت فتى لا يتجاوز عمري خمسة عشر عاما عندما عملت في سوق الزاوية أزن وأعبئ البهارات للزبائن فأصبح لدي فضول لمعرفة كل شيء عن هذه المهنة، فتدرجت بذلك حتى صرت أعمل كل شيء بمفردي، ثم تعلمت بعد ذلك الطبخ والتعامل مع الأعشاب، والطعام البلدي مثَّل لي تراثا شعبيا فلسطينيا، وهذا شجعني على عمل تركيبات بطريقة جيدة تنال رضا الزبون".
بدايات العمل
في بداية عمله كانت البهارات محدودة، كالحَب الهيل، والفلفل الأسمر، والقرفة، وجوزة الطيب، والقرنفل، أما في العقود الثلاثة الأخيرة فقد ظهرت أنواع وتشكيلات متعددة من البهارات الأوراق العشبية كإكليل الجبل، والخلنجان، وورق الغار، وزيت الورد، والأوريجانو.
تفلت من عبده ضحكة في الهواء وفي صوته حنين لأيام كانت فيها حركة الزبائن على شراء البهارات أفضل من واقعها الحالي، "من أربع سنوات وتعا جاي بنرجع لورا وبناكل من مال التجار لأنه السلع بتغلى".
يفرد كفيه مكملًا قوله: "كان الزبون يشتري أوقية أو نصف كيلو، اليوم بالكاد يشتري بشيكل أو اثنين، وأحيانًا يطلبها دينًا، الأمر الآخر غلاء سعر البهار، كان الكيلو في السابق يكلفنا ستة عشر شيقلا ونبيعه بأربعة وعشرين، وتقلص هامش الربح بعد أن أصبح الكيلو يكلفنا نحو ثلاثة وعشرين شيقلا".
يختلف مذاق البهارات بين الصانعين، ولكن الزبون يستطيع تمييز النهكة الأجود من خلال رائحة البهار، تبعًا لعبده.
لكن كيف يقوم الصانع بإعداد تركيبة تلائم طلب الزبون؟ يجيب عبده: "لما بدأت تظهر أنواع جديدة، كنا نتذوقه ونعرف تفاصيله إن كان للشواء أو للحمة الطازجة أو المجمدة، ولأني بالأساس طباخ كنت أتلاعب في مذاق الزبون، وأحيانًا أضع بديلًا عن شيء تعطي النكهة نفسها، فمثلًا أستبدل الشطة بالزنجبيل، فتعطي طعمًا جديدًا وحارًا".
تركيبة خاصة
جلس عبده على مقعدٍ خشبي يتسع لشخصين، متممًا حديثه بالإشارة إلى الفرق بين صناعة البهارات وشرائها جاهزةً أو مستوردةً.
وتركيبة عبده، هي خلاصة تجربةٍ عمرها ثلاثة عقود ونصف العقد، إذ يعتمد على شراء الحبوب والمواد الخام من الهند أو فيتنام وتركيا وإسبانيا؛ "بالنسبة لي وضعت تركيبة الخلطات على دفتر يضم تركيبة لنحو 17 نوعًا، فنضع خلطة الحبوب بنسبة وتناسب وتقادير معينة فيظهر طعم السمك، أو بهار الدجاج، أو الأنواع الجديدة كبهار التايلندي، أو المكسيكي، أو الشاورما وهذه الأنواع تميز صانعا عن آخر".
في داخل المحل ماكنات ومحامص للقمح والقهوة، اقترب عبده من ماكنة طحن البهارات كمن يدنو من عزيز عليه، للماكنة حوض مائل يتسع لعشرة كيلوغرامات ويمكن لشفرها طحن الحبوب وفق المنسوب الذي يريده سواء كان ناعما أو خشنا.
ولعملية طحن البهارات ترتيبات خاصة يراعيها عبده، حتى لا يفسد طعم البهار إذا ما طحن فوق آخر بعيد في اللون أو الطعم، "فمثلا لا آتي بعد طحن بهار الكباب إلى طحن القرفة، وإنما أتدرج في نوعية البهار المطحون من أجل سحب الرائحة تدريجيًا".
إضافة لصناعة البهارات تعلم "أبو علي" العطارة والطب الشعبي، كإعداد وصفات لتخسيس الوزن، وعلاج المسالك البولية، وآلام المفاصل، كلام كثير أدلاه به حول العديد من الأعشاب وفوائدها في تطبيب الجسم.
وبين "أبو علي" والسوق ارتباط متجذر، ولا يخلف ميعاد فتح متجره عند الساعة الثامنة صباحًا ويغادر في الثالثة عصرًا، ولا يزال الأمل يحذوه أن تتحسن الأحوال، موقنًا من خلال تجربته أن "تقوى الله هي رأس مال هذه الصنعة، والتقوى تبدأ من تركيبة البهار، فهناك سلع تكون قد أمضت فترة طويلة مركونة في المخازن ويتسبب هذا في فقدانها الزيت العطري الذي تحتويه، ومعها تقل فائدة البهار ويضيع طعمه".