شهدنا، أخيراً، خطواتٍ غير مسبوقة في الإعلام الأميركي، على وجه الخصوص، في تغطية القضية الفلسطينية، سواء في المساحة المتاحة لأصواتٍ فلسطينيةٍ ومناصرين للشعب الفلسطيني، أو المفردات المستعملة التي لم يكن لها متسع، أو لم تجد ترحيباً، في أيّ من الصحف ووسائل الإعلام المرئية والصوتية، وحتى المواقع الإخبارية. فقد نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" المعروفة بتأييدها الصارخ لـ(إسرائيل)، صور كلّ الأطفال الشهداء في العدوان الإسرائيلي على غزة في مايو/ أيار الماضي، مع الأسماء والأعمار، فلم يعد الضحايا مجرّد أرقام، وهو ما فعلته بعد تفجير برجي مركز التجارة العالمي في هجوم "11 سبتمبر" الإرهابي عام 2001. وفتحت كلّ من "التايمز" و"واشنطن بوست" صفحاتها ومساحات صفحتها الرقمية لأقلام فلسطينية تروي قصة النكبة والتهجير والتطهير العرقي، كما كانت وما زالت، بقباحتها دون تجميل أو تزييفٍ بأقلام كانت تحاول دائماً تبرئة (إسرائيل) من المسؤولية.
كما أصبحنا نرى تعيينات لصحافيين عرب أو أميركيين معروفين بإدانة (إسرائيل) من دون مواربة وزيف، ومن دون أن تحاول إدارات وسائل الإعلام فرض صمت هؤلاء على وسائل التواصل، في حين كانت طوال عقود بالكاد توظف أيّ صوت معارض للسياسة الأميركية. وفي المرّات التي تحتاج فيها لكفاءات صحافية عربية (فلسطينية مثلاً) على الأرض، كانت المعركة يومية مستمرة للدفاع عن القصة المروية، حتى لا يغيّرها المحرر أو يشوهها لتناسب الرواية الإسرائيلية.
ليس الحديث هنا عن أعجوبة وعن صحوة ضمير بالضرورة، بل عن تغييرات مهمة جاءت نتيجة نضالات تراكمية على الأرض الفلسطينية وفي مخيمات اللجوء، إضافة إلى نضالات مثقفين وصحافيين عرب وغربيين في تحدّي الرواية الصهيونية، فالفلسطيني يدفع الثمن يومياً على أرضه لنيل حقوقه والمحافظة على الذاكرة والرواية التاريخية الفلسطينية. بالتالي، على كل كاتب وصحافي أتيحت له الكتابة في صحف أميركية أو الظهور على شاشات أميركية أن يتذكّر تضحيات من فتح له هذا الباب، فجميعنا لم نكن لنخترق هذه المساحات من دون تضحيات الأسرى والجرحى والشهداء.
العامل الآخر الذي لا يمكن إغفاله، القفزة المهمة في العامين الأخيرين، والتي لم يكن ممكناً تحقيقها من دون وسائل التواصل من "فيسبوك" إلى "تويتر" و"إنستغرام" و"تيك توك"، فالفلسطيني ومناصروه جعلوا من وسائل اخترعها الغرب أداة لمحاربة الهيمنة الغربية والإسرائيلية على الإعلام، وعلى احتكار الرواية وتحديد المفردات المسموح استعمالها، والصور "المناسبة" التي لا تتعارض مع صورة الدولة الصهيونية. أحرجت ثورة الاتصالات وأعمال الفلسطينيين ومؤيديهم الإبداعية كلّ وسائل الإعلام الغربية التي بدت باهتة وفي زمن آخر، متخلفةً عن سباق الأخبار، بصورة أو فيديو من موبايل قد لا يكون الأكثر تطوراً، لكنّه يوثق جريمةً لا يمكن التعتيم عليها. بل أصبحت وسائل إعلام تتسابق على استعمال بعض هذه الصور والفيديوهات، ما صعب وزاد من تكلفة الحملة الإعلامية المضادّة التي وظفت جيوشاً إلكترونية خاصة، خلال هبّة أيار (مايو الماضي) التي شكّلت تحدّياً استثنائياً لآلة الدعاية الصهيونية، فالمواجهة مرئية ومسموعة، موجهة بين شجاعة ابن الأرض الأصيل وصلابته، في مواجهة الغازي المستوطن المستعمر المدجّج بالأسلحة الحديثة التي تكلّف مليارات الدولارات، أقول هبّة أيار على وجه الخصوص، لأنّ صوراً تدفقت بالبث المباشر من فلسطين، فوجدت وسائل الإعلام الأميركية نفسها مضطرّة أن تعترف، وإن جزئياً، من خلال مقالات ومقابلات، تنشرها وتبثها أنّ القصة لم تبدأ باحتلال عام 1967، بل منذ بداية الاستيطان في العشرينيات من القرن العشرين التي أدّت إلى النكبة عام 1948.
هذه تغيرات كبيرة؛ فالإعلام الأميركي بالكاد استطاع أن يبلع صدمتي الانتفاضتين الفلسطينيتين، وقد دخلت مفردة انتفاضة في القاموس اللغوي والإعلامي في معظم اللغات العالمية، وأن يكتشف استمرار المقاومة الفلسطينية بكلّ أشكالها بعد توقيع اتفاقيات أوسلو، على الرغم من كلّ احتفالات "سلام زائف" التي واكبها تصعيد في توظيف الفصل العنصري لنهب الأرض الفلسطينية، ففي كل ما يبشّر به إعلامي أو مسؤول غربي بقرب استسلام الفلسطينيين تحت عنوان "اتفاقية سلام نهائية" ينتفض الفلسطيني مجدّداً بالقلم والكاميرا، بالشعر والأدب والسينما، يجسّد الموت في سبيل الحياة الحرّة، ليكتشف الإعلام الغربي الذي صمت مطولاً، في ما عدا استثناءات صحافية معروفة، ليكتشف، في مايو/ أيار عام 2021، أنّ أرض فلسطين رفضت التغييرات الديموغرافية المفروضة بقوة المجازر، وبقيت هي نفسها، أي فلسطين.
اعترف الإعلام الأمريكي -وإن بمساحةٍ لا تتساوى مع أصوات الحرب والاستيطان والاستعمار- بوجود أصلي وأصيل في فلسطين، وأن القصة ليست مسألة احتلال أو أسطورة دينية، بل مسألة شعب أصلي أصيل يرفض المستعمر، وهذا تطور في غاية الأهمية، وهو يعني أنّ كلّ نتائج المعركة الإعلامية التي أبدع بها الفلسطينيون وأنصارهم في خطر أكثر من أي وقتٍ مضى، فالمسموح يبلغ الحديث عن احتلال (إسرائيل) أراضي فلسطينية ليس بشرعية المقاومة لإنهاء هذا الاحتلال، فالإعلام الأميركي يخرج عن إطار الحلول الرسمية الأميركية البعيدة كلّ البعد عن الاعتراف بأن (إسرائيل) مشروع استعمار إحلالي عنصري.
لا أحد لديه أي أوهام بأنّ هناك تغييراً جذرياً في الإعلام الأميركي. لكن يجب الاعتراف بالإنجازات من أجل الحفاظ عليها، فليس هناك تحوّل جذري في غرف أخبار الصحف ووسائل الإعلام، بل أبقت على أبواق الاستعمار، وهم نجومها، وهؤلاء ليسوا بعيدين عن صنّاع السياسات، وإنْ كنا قد شهدنا تمرّداً نسبياً على إدارة دونالد ترامب، الذي اعتبرته الصحف الليبرالية خطراً على قناع السياسات الاستعمارية "الحضاري" وخطراً على مصالح أميركا في العالم، بل اعتبرت كلّاً من ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، خطراً على (إسرائيل) نفسها، وعلى فرص "تسوية نهائية" تضمن أمن (إسرائيل) وقتها، وحدّاً أدنى من الطمأنينة، تحدّده وتقرّره أميركا و(إسرائيل).
لا يهدف التحذير إلى تثبيط العزائم، بل هو دعوة إلى عدم الاستكانة، فطبيعة النظام الأميركي لم تتغير، وإنْ تقاوم أصوات داخل الكونغرس وخارجه. والبناء على الإنجازات والحفاظ عليها فعل مقاوم، لكنّ رياح التطبيع بين (إسرائيل) ودول عربية عاتية، وسط ابتذال وسقوط أخلاقيين مروعين لحكام ومثقفين، كلّ دورهم تفكيك الوعي والانتصارات .. نتائج هبّة أيار السياسية والإعلامية حقيقية، لكنّ أميركا تعمل على خطٍّ مواز، هو توسيع التطبيع وتعميقه، خصوصاً تطبيع الرواية الصهيونية وتقديم (إسرائيل) صديقاً ومنقذاً "حضارياً" للمنطقة. وليس مصادفة أن نرى أصواتاً عربية، إن كانت في ضيافة الحكومة الإسرائيلية، أو في بلادها، تكيل المديح لـ(إسرائيل)، لأنّ الرد الصهيوني الأميركي على الصعود الإعلامي للرواية التحرّرية الفلسطينية، هو بمواجهتها برواية خنوع، وبوجود أصوات عربية، فلتشرع الأقلام وبقوة، في كلّ مساحات الإعلام العربية والعالمية، بتفكيك الرواية الاستعمارية الصهيونية وفضح أصوات التصهين العربية.