سمعنا بقصة الحطاب الذي اختار التضحية بولده ونفسه دفاعًا عن قريته، ورددنا القصة أمام الناس، وعلى مسامع طلابنا، وتحدثنا بها في مجالسنا صباح مساء، دون أن نسأل بعض الأسئلة الهامة، عن السبب الذي جعل الحطاب يقدم على التضحية دون تردد، وبلا وجل!
فماذا تقول القصة؟
تعود حطاب أن يصطحب معه ابنه إلى الغابة القريبة من قريتهم، يحتطب لأهل القرية بما يكفيه طعام أسرته، وفي يوم من الأيام، أمسك به الغزاة، وهددوه بالموت هو وولده إن لم يرشدهم إلى أقصر الطرق المؤدية إلى قريتهم، ليفاجئوا المدافعين، ويحتلوا القرية بسهولة!
وحين تأكد للحطاب جدية التهديد، أشار إلى ابنه الذي يقف إلى جواره وقال للغزاة: اذبحوا ابني هذا أولًا، بعد ذلك أدلكم على أقصر الطرق للقرية، لتفاجئوا أهلها، وتغتصبوا نساءها!
تعجب الغزاة من الحطاب، وسألوه: كيف ترشدنا إلى القرية بعد ذبح ابنك؟
قال الحطاب: أخشى إن أرشدتكم إلى القرية أن يشي بي ابني هذا، ويعاقبني أهل القرية.
وذبح الغزاة ابن الحطاب أمام عينيه، وقالوا له: الآن أنت حر، أرشدنا إلى طريق القرية.
ابتسم الحطاب ابتسامة المنتصر، وقال للغزاة: كنت أخشى أن يضعف ابني، ويشي لكم عن طريق القرية.
أما الآن، وقد مات، فلن أدلكم على طريق القرية، حتى ولو قطعتم من لحمي.
فلماذا ضحى الحطاب بولده حماية لأهل قريته؟ لماذا استعد أن يتحمل عذاب الأرض، دون أن يشي للغزاة عن طريق القرية؟ لماذا لم يأخذ الحطاب أجرًا على عمالته وخيانته لوطنه؟
لقد عثرت على الجواب من خلال الواقع الفلسطيني، فقد كان الحطاب واثقًا بأن مختار القرية لن يستسلم للغزاة، وأنه على استعداد لأن يفتدي أهل قريته بماله وعياله، فكان مختار القرية هو النموذج الذي حاكاه الحطاب، ولو أدرك الحطاب أن مختار القرية ينسق ويتعاون أمنيًّا مع الغزاة، وسيبيعهم نساء القرية سبايا، وسيقبض مالًا مقابل أعناق شباب القرية، لكان الحطاب أولى بالرشوة، وأحق بالتجسس لصالح الغزاة، وبغض النظر إن كان هذا التجسس على دولة مثل تركيا أو إيران أو غزة أو حتى اليمن، فحين تصير الخيانة وجهة نظر، وفلسفة المنتفعين، تصير التضحية بالولد والنفس والمال بلا جدوى.
والناس على دين مخاتيرهم، فإن كان المختار وفيًّا اتبعه القوم، وإن كان المختار دني النفس كان القوم منحطين في سلوكهم وفي تفكيرهم، وإن كان المختار متسولًا يمد يده للغازي والنازي، يصير التوسل من طباع الناس، وإن كان المختار صنديدًا مقاتلًا، ذا عزم وبأس، يصير القوم أهل تضحية وفداء.
ولو تأكد للحطاب أن المختار سيتخلى عن بناته وأبنائه، ويتركهم أسرى في سجون الغزاة لأربعين عامًا، لما أقدم على التضحية، ولو تأكد للحطاب أن شغل المختار الشاغل هو التربح المالي، وبناء المؤسسات والمصالح والشركات لأولاده، لما ضحى الحطاب بولده. ولو كان الحطاب يعرف أن المختار سيعترف للغزاة بما اغتصبوا، ويقر بحقهم بسلب الأرض والعرض، لما أقدم الحطاب على التضحية.
مختار القرية هو العنوان، وهو الذي يصنع المزاج الجماهيري، فإن كان صالحًا صلح المجتمع، وإن كان فاسدًا هاملًا، أصابت عدواه المجتمع، إلا من رحم ربي، وشق عصا الطاعة.
لقد أدركت من خلال تضحية الحطاب أن الساسة هم مفسدة السياسة.