"تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليًّا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر".
لا تنسوا هذا النص. هذا نص (وعد بلفور)؛ الرسالة التي أرسلها آرثر جيمس بلفور، وزير خارجية بريطانيا بتاريخ 2 نوفمبر 1917 إلى اللورد اليهودي ليونيل والتر دي روتشيلد، يشير فيها لتأييد حكومة بريطانيا لإنشاء "وطن قومي لليهود" في فلسطين. وذلك قبل (١٠٤) سنين. وكانت حكومة بريطانيا قد عرضت نص تصريح بلفور على الرئيس الأمريكي ولسون، ووافق على محتواه قبل نشره، كما وافقت عليه فرنسا وإيطاليا رسميا سنة 1918.
سنون عجاف، عددها اليوم (١٠٤)، والشعب الفلسطيني لا ينسى ٢ نوفمبر ١٩١٧م، ولا ذلك الوعد المشؤوم، الذي أسس للنكبة الفلسطينية، ومن ثمة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي ما زال متواصلا وساخنا حتى يومنا هذا، ولا أظن أن الأجيال القادمة ستنسى هذا اليوم، بل ربما تكون أكثر تمسكا بحق العودة والوطن ورفض الوعد، وتجريم حكومة بريطانيا لإعطائها وعدا هي لا تملك رقبته ليهود لا حق لهم في دولة في فلسطين.
غدا خروج الأجيال الشابة الفلسطينية في غزة وربما الضفة والشتات أيضًا، في مظاهرات شعبية تنديدا بالوعد، وبدور بريطانيا في نكبة شعبنا. نعم، قد لا تحرر المظاهرات الأرض، ولكنها تنعش ذاكرة الأجيال بحجم العدوان البريطاني الصهيوني، وما ترتب عليه من مآسٍ ما زالت إلى اليوم تأكل من جسد فلسطين، ومن اللحم الفلسطيني الحيّ.
الصراع (الفلسطيني الإسرائيلي) لن ينتهي رغم حالة التطبيع العربي مع العدو الإسرائيلي، وخروج بعض أنظمة الحكم العربي من الصراع، ومن إستراتيجية التحرير، لا يهدم هذه الإستراتيجية ما تمسك بها الفلسطيني، وأحسب أن جلّ الفلسطينيين يتمسكون بالحق في التحرير، وإن اتفاقية أوسلو كانت خطأ وقع فيه بعض المتعجلين، من الذين يئسوا من النظام العربي، وخنعوا لقوة جند العدو، وهم في الحقيقة الإيمانية جند ضعيف مخذول، وقد أثبتت ضعفه المقاومة الفلسطينية مرات عديدة، وكذا الجيش المصري في الأيام الأولى من حرب أكتوبر١٩٧٣م.
بعد مئة وأربع سنوات يمكن أن نقول: تألمنا فيها كثيرا، ولكننا اليوم نحن أقرب إلى التحرير، والعدو أقرب للزوال، وسيأتي اليوم الذي يتمكن فيه الفلسطيني من تدفيع بريطانيا ثمن وعدها ونكبتنا، وإذا كان اليهود قد تقاضوا الثمن من ألمانيا على جرائم النازية، فإنا على طريق تقاضي الثمن من بريطانيا، وذلك حين نستعيد أنفسنا ووطننا. وما ذلك على الله بعزيز.