هل يقبل الاحتلال الإسرائيلي لنا نحن الفلسطينيين أن نعيش في كنفه، ننزف عرقنا وطاقتنا في مصانعه، ونقدم له الخدمات الأمنية التي يشتهي، ليلقي لنا رغيف الخبز، ونحن نسبِّح بحمده صباح مساء؟
لا أظن ذلك، لن يقبل الاحتلال الإسرائيلي مجرد وجود شعب فلسطيني على هذه الأرض، فمنذ وطئت قدم أول غازٍ صهيوني أرض فلسطين، وهم يرددون مقولة رئيس وزراء بريطانيا السابق اليهودي بنيامين دزرائيلي (أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض) وخير شاهد على ذلك اتفاقية أوسلو، التي اعترفت لـ(إسرائيل) بمعظم أرض فلسطين، وطالبت الشعب الفلسطيني بإلقاء السلاح، والتعايش مع المحتلين لمدة أربع سنوات انتقالية، تسمح بعد ذلك بقيام دولة فلسطينية.
فهل قبل الإسرائيليون معادلة عيش الفلسطينيين تحت ظلال الاحتلال؟
كلا، الإسرائيليون لم يقبلوا بهذه المعادلة، بل حرصوا على استثمار اتفاقية أوسلو لصالح التوسع الاستيطاني، والتضييق المعيشي على الفلسطينيين، لذلك انفجرت أولى المواجهات في الخليل، ثم في جبل أبو غنيم سنة 1998، حين استولى المستوطنون على الجبل الاستراتيجي شمال بيت لحم، وحولوه إلى مستوطنة باسم "هار حوماه"، ولم تقف الأطماع الإسرائيلية عند هذا الحد، وهم يتنصلون من اتفاقية أوسلو، ومن اتفاقية الخليل، واتفاقية واي ريفر.
كانت انتفاضة الأقصى تمرداً فلسطينياً على فكرة التعايش تحت ظلال الاحتلال، وكان الرد الإسرائيلي مزيداً من القتل والقمع والذبح والتآمر، في ذلك الوقت نجح شارون في اصطياد أبي عمار في المقاطعة، وفرض عليه السجن الإجباري تحت سمع وبصر كل القادة الفلسطينيين، الذي يبكون اليوم على أبي عمار، ويذرفون الدمع على سيرة الرجل. ظل أبو عمار حبيس المقاطعة، في الوقت الذي كانت تتحرك فيه بقية قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، ويتنقلون عبر الحواجز الإسرائيلية، ويعبرون من غزة إلى الضفة، ومن الضفة إلى الأردن، وقد شارك فاروق القدومي في مؤتمر القمة العربية في بيروت 2002، في الوقت الذي لم يسمح فيه قادة العرب لأبي عمار بأن يلقي كلمة فلسطين من داخل المقاطعة، حيث حاصره شارون.
وتمت تصفية أبي عمار سجيناً، في حين زملاؤه، وأصدقاؤه، وورثته، يتنقلون هنا وهناك، بل اجتمع نائبه ورئيس وزرائه محمود عباس مع شارون في يونيه 2003 في العقبة، وتوصل بحضور الرئيس الأمريكي بوش إلى اتفاقية إنهاء الانتفاضة، والرضا بالعيش تحت ظلال الاحتلال، وعلى ذلك تمت تصفية انتفاضة الأقصى، وصار التنسيق والتعاون الأمني مقدساً، ولكن ذلك كله لم يرضِ الإسرائيليين، ولم يؤسس لدولة فلسطينية، ولم يوقف القتل والاقتحام والتضييق على حياة الفلسطينيين، حتى صارت 60% من أرض الضفة الغربية تحت النفوذ الإسرائيلي بالكامل، وانكفأ الفلسطينيون داخل مدنهم ومخيماتهم وقراهم، لا حول لهم ولا قوة تدافع عن مقدساتهم.
فهل رضى الإسرائيليون بهذه المعادلة؟ وهل كفت قيادتهم عن التآمر على الوجود الفلسطيني نفسه داخل مدن الضفة الغربية المحاصرة بالمستوطنات والطرق الالتفافية؟ وهل سيعترفون يوماً بحقوق الفلسطينيين الإنسانية، بعد أن تنكروا لحقوقهم السياسية؟
الجواب الذي صار يدركه القاصي والداني هو أن الاحتلال الإسرائيلي يريد الأرض دون الإنسان، حتى ولو قبل هذا الإنسان أن يعيش في غزة والضفة الغربية في تجمعات سكنية كما حدث مع إخوانهم فلسطينيي 48، فإن الاحتلال لن يقبل بهذه المعادلة، ولن يعطي للفلسطينيين أي مساواة في الحقوق الإنسانية، وهذا ما أوجع أهلنا فلسطينيي 48، الذين وجدوا أنفسهم بعد سبعين سنة من محاولة التعايش مع الإسرائيليين، يمضغون المهانة ويلوكون التفرقة العنصرية.
الأيام مدرسةٌ، ومن لم يتعلم من تجارب الشعوب يظل تلميذاً فاشلاً في المرحلة الابتدائية من التنسيق والتعاون الأمني، يفتش عن أحلامه بين ركام أخطائه.