لمَّا كان التاريخ الفلسطيني على طول المدى يتنقل من احتلال لغيره فكان لأبناء الشعب الفلسطيني نصيب الأسد في خوض غمار تجربة الأسر بكل مرارتها وقسوتها وبكل متعتها كذلك لما تحمل من معاني التحدي والصمود والجلد، وفي السنوات القليلة الخوالي حيث الانتفاضتين، حيث لم ينجُ فلسطيني تقريبًا من تجربة القيد حتى غدت أرقام الأسرى بالآلاف في شتى قلاع الأسر المتناثرة على طول الأرض الفلسطينية والتي تزايدت أعدادها وتوسعت مساحاتها بازدياد المنتسبين لهذه المرحلة الرحيبة التي اتسعت لكل فلسطيني مقدام.
تحفل تجربة الأسر بصور شتى متناقضة أحيانًا في ذهن الأسير وتحمل انطباعات خاصة ليس سهلًا على من خاض هذه التجربة الحافلة نسيان هذا الجزء الهام من تاريخ حياته حيث صور المعاناة المختلفة والضيق المسيطر وحرمان الحرية خاصة تلك اللحظات التي يُسام فيها الأسير ألوان العذاب النفسي والجسدي والعزل.. مع لحظات الصمود والتضرع إلى الله تعالى بحفظ العقل والنفس في هذه اللحظات المخيفة.. وجزءٌ لا يُنسى كذلك لأنه لون جديد من الحياة تمتزج أرواح السجناء وتتلاصق قلبًا واحدًا.. فروح الجماعة السيد الآمر الناهي.. حيث لا مكان للذات والأنا في هذا القارب.. ويشعر الأسير خلال ذلك براحة نفسية واستقرار داخلي لأداء جزء من الواجب تجاه الدين والوطن والشعب.
السجن، والمعتقل، والزنزانة، وكل ظروف العزل، ومحاولات التدمير الممنهج التي استهدفت إرادة وإيمان الأسير الفلسطيني باءت بالفشل فالفلسطينيين حوّلوا المعتقلات والسجون إلي مدارس، وجامعات، ومعاهد تعليم لغات، ومحو أميّة، وهكذا تشكّل مجتمع فلسطيني حيوي متحد وراء الجدران المعتمة الرطبة، وتحت شمس الصحراء، وفي العراء، وتحت الخيام التي لا تقي من حرّ ولا ترد البرد، وهذا (المجتمع) بكل قوّته هو الذي زوّد شعبنا بالخبرات، والطاقات، وضخّ في شرايينه العافية، وفي روحه المزيد من الصلابة. المواجهة بين السجون، والمعتقلات، ومعسكرات الأسر، وبين الفلسطينيين تنتهي في كل الأحوال بخروج الفلسطينيين رجالًا ونساءً وأطفالًا مرفوعي الرؤوس، أمّا الخسائر الطفيفة فإنها ضريبة لا بدّ من دفعها.
في سجون العدو نساء فلسطينيات ولدن في الزنازين بعد اعتقالهن وهنّ حوامل، ومن أنجبنهم يعيشون معهن في الزنازين!. هناك أطفال وأمهات حرمن من رؤية أطفالهن وأفراد أسرهن. في سجون ومعتقلات الصهاينة يحرم السجناء من لمس أيدي زوّارهم لأن سجّانيهم يضعون زجاجًا يفصل بينهم ويفرضون عليهم تبادل الكلام عبر (الإنترفون). في معتقلات (أوشفتز) الديمقراطية تتم تعرية الأسري والأسيرات بحجّة تفتيشهم لإذلالهم وتحطيم كبريائهم تمامًا كما حدث في سجن (أبو غريب)!. أذكّركم بأن الجنرال الأمريكية (كاربنسكي) التي كانت مديرة لسجن (أبو غريب) صرّحت بأنها التقت ذات يوم بشخص غريب يتجوّل في السجن، وعرفت أنه (إسرائيلي). ذلك الشخص دخل العراق وتوجّه إلي سجن (أبو غريب) لتقديم الخبرات التي اكتسبت في التعامل مع الفلسطينيين للحلفاء الأمريكيين ليطبقوها علي السجناء والأسري العراقيين!
ودور الأسير لا يمكن تجاوزه أو القفز عنه أو نسيانه.. دوره في بناء مجتمعه وكيانه حيث يقدم روحه ونفسه هبة للبناء والصعود فعلى أكتافه يرقى المجتمع ويحقق إنجازاته وطموحاته في التحرر والحياة الحرة الكريمة.. وأي مجتمع أو فرد ينكر هذا الدور يساهم بمزيد من التزييف والتضليل لذاته أولًا.. وبذلك غدا السجن والقيد سوارًا حول معصم الأسير ورمزًا ثابتًا لمعاني الفداء والتفاني..
الأسير والتغير السياسي..
قضية أسرى فلسطين خضعت دومًا للمتغيرات السياسية لأن أسباب الاعتقال والقيد سياسية.. وبالنظر إلى حال سجيننا الفلسطيني في واقع التغيرات السياسية اليوم.. وكيف يغدو الأسير بعد اتفاقات أوسلو وواشنطن والقاهرة؟! وبعد مؤتمرات شرم الشيخ والعقبة؟! وبعد حوارات القاهرة وصيغ التفاهم؟! وبعد قرارات الانسحاب من غزة والتهدئة المعلنة وغيرها؟!
أُدرجت قضية أسرى فلسطين على جدول التفاوض الإسرائيلي – الفلسطيني، ولم يملّ المفاوض الفلسطيني طرحها كمطلب ملّح يحفظ له على الأقل ماء الوجه، وتعهدت (إسرائيل) قبل التوقيع في القاهرة على الإفراج عن خمسة آلاف سجين فلسطيني فور التوقيع ولم تفِ (إسرائيل) وأبقت قضية الأسرى على جدول الابتزاز السياسي، تربطها بتوقيع تعهدات تارة وبشروط بقائهم في مناطق الحكم الذاتي تارة وبربط قضيتهم بقضية وجود عملاء للاحتلال وضرورة العفو عنهم أولًا تارة ثالثة وضرورة ضرب قوى المقاومة وجمع سلاحها تارة رابعة. وإلى هذه اللحظة لم يحدث أي إنجاز لقضية الأسرى بطريق التفاوض السياسي.