عشر سنوات عجاف مرَّت على شعبنا الفلسطيني وهو يرزح تحت نير الانقسام السياسي. منظمة التحرير الفلسطينية تجرأت على كسر أهم ثوابت الشعب الفلسطيني باعترافها (بإسرائيل) دولة ذات سيادة على 78% من فلسطين، وذلك وفق اتفاق أوسلو المشؤوم في سبتمبر 1993م. هذا الاعتراف المشؤوم أدى لخروج فصائل منظمة التحرير الفلسطينية من دائرة الصراع مع (إسرائيل) وتوجيه البندقية نحو صدر الشقيق الفلسطيني الذي استمر رافضًا لهذا الاعتراف. مارست السلطة الفلسطينية المنبثقة عن اتفاق أوسلو كل أشكال الحرب على المقاومة، بعد أن أدانت كل أعمال المقاومة السابقة بالتزامها بنبذ "الإرهاب". افتتح الأمن الوقائي للسلطة مقرًا مركزيًا في غزة كان مقرًا لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية (C.I.A)، وتم شبح وسلخ وتعذيب، بل وقتل وطنيين شرفاء، كان الأصل أن تقام لهم تماثيل تقديرية على خدماتهم الوطنية السامية، وتم ملاحقة كل مَن يفكر مجرد تفكير في إيذاء العدو الصهيوني.
تعاملت السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية على وجه الخصوص مع قطاع غزة كمزرعة تُدِرُّ عليها الأموال الوفيرة من وراء الخاوات، والقرصنة على أموال الشرفاء الخاصة، والمنح الأمريكية والأوروبية لقاء الخدمات الأمنية غير المحدودة، ومصادرة أموال المشتبه بدعمهم للمقاومة، والامتيازات الخاصة والاحتكارات لكثير من المواد الأساسية اللازمة للسكان، وحرمان أبناء الفصائل المقاوِمة من أية وظائف؛ بل وطرد الموظفين منهم من وظائفهم، ومنع ترقية بعضهم، بحيث أصبحت مؤسسات السلطة تعج بعناصر منظمة التحرير الفلسطينية، وعلى وجه الخصوص عناصر فتح التي استحوذت على أكثر من 90% من وظائف السلطة الفلسطينية كافة، وكل ذلك تم بالفعل خارج سلطة القانون.
بنَت المقاومة الفلسطينية قدراتها في ظل حاجة المجتمع الفلسطيني للدفاع عن نفسه أمام تغوُّل الاحتلال خلال انتفاضة الأقصى منذ عام 2000م، وابتكرت وسائل تقيها من هجمات الأجهزة الأمنية الفلسطينية التابعة للاحتلال، واصطدمت مرارًا معها لتخليص بعض المقاوِمين من أيديهم أثناء تأديته لواجب الدفاع عن شعبه، شيئًا فشيئًا، ومع تزايد الأصوات الداعية إلى إصلاح منظمة التحرير، ومن ثمَّ اتفاق القاهرة في مارس 2005م، وجدت حركة حماس نفسها أمام فرصة جديدة لحماية المقاومة الفلسطينية وتصويب الخطيئة الكبرى التي ارتكبتها منظمة التحرير، واغتنمت فرصة رغبة رئيس منظمة التحرير لترسيم وضعه وتجديد الشرعيات السياسية، مع رغبته في احتواء حماس، فشاركت حماس في انتخابات المجالس المحلية في عام 2005م، وانتخابات التشريعي في عام 2006، لتصويب كل الأوضاع، وحصلت المفاجأة التي لم يتوقعها محمود عباس ولا الداعمين له، بفوز حركة حماس بأقل قليلًا من ثلثي أعضاء المجلس التشريعي.
لم تتردد السلطة الفلسطينية، وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية في فرض مقاطعة على تشكيل الحكومة الفلسطينية العاشرة التي ستشكلها حماس، وقررت حركة فتح وأجهزة السلطة الأمنية التابعة للاحتلال إسقاط حماس من خلال إغراقها في مشكلات مالية وأمنية وإدارية وتشريعية. ووضع النائب عن حركة فتح ورئيس جهاز الأمن الوقائي في السلطة محمد دحلان مبدأ "الخمسة بلدي" في إشارة إلى عزمه "ترقيص" حماس، وتتالت إجراءات فتح وأجهزتها الأمنية في خلق حالة من الفلتان الأمني غير المسبوق، أدى إلى اغتيالهم عضو المكتب السياسي لحماس الشيخ حسين أبو عجوة، وغيره من المشايخ ومحفِّظي القرآن، والإعلاميين، ولو بشبهة انتمائهم لحماس وذلك من خلال إطلاق لحاهم. وقد اعترف أبو خوصة أحد كوادر فتح في فيلم وثائقي بأنهم كانوا يستهدفون أشخاصًا على اللحية. وقد أُطلقت النيران صوب رئيس الوزراء القائد لحركة حماس إسماعيل هنية، وأُصيب مرافقه. وأخذت السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس تستجلب الدعم العسكري للقضاء على حماس وحكومتها، وتم جلب مئات العناصر من قوات بدر من الأردن، وشحنات ضخمة من الأسلحة الحديثة بموافقة (إسرائيلية). لقد أصبح الصدام مسألة وقت يقدَّر بالساعات لا بالأيام.
قررت الحكومة العاشرة ومن خلال أداتها الرسمية الملتزمة بقرارها "القوة التنفيذية" تأديب العناصر والأجهزة الفالتة، وكان التقدير أن ضرب مقر جهاز الأمن الوقائي في حي تل الهوا سيفي بالغرض، وما هي إلا ساعات حتى انهار الأمن الوقائي والمخابرات العامة والاستخبارات العسكرية والأمن الوطني وكل الأجهزة الأمنية، وفرَّ من استطاع من قياداتهم الفرار عبر الحدود مع (إسرائيل) أو عبر البحر، واحتمت بعض قيادات فتح بالسفارة المصرية. كان محمد دحلان في الخارج آنذاك يخطط للانقضاض على حماس، ومحمود عباس كان في رام الله ينسِّق مع (إسرائيل) والأردن، ويوفر الغطاء القانوني للانقلاب على شرعية حماس المتمثلة بالتشريعي والحكومة.
في نهار يوم الخميس 14/6/2007م أنهت حكومة إسماعيل هنية القضاء على الفلتان الأمني، وألقى رئيس الوزراء خطابًا دعا فيه رئيس السلطة محمود عباس للقدوم إلى غزة لترتيب الوضع الإداري فيها بما يؤكد عدم ورود فكرة الانفصال أبدأ على عقول قادة حماس وحكومتها. لكن عباس قرر عزل هنية وتشكيل حكومة طوارئ يقودها سلام فياض، ومنذ تلك اللحظة تم عزل قطاع غزة عن العالم، واستفردت حركة فتح بالضفة الغربية، لتخلق انقسامًا سياسيًا جديدًا بعد الانقسام الأول الذي صنعته بتوقيع اتفاق أوسلو.
والآن، وبعد هذا العقد من السنين العجاف، أما آن لمحمود عباس أن يعتذر عن أوسلو وعن عزل الضفة عن غزة، وعن حصار غزة؟
أما آن لمحمد دحلان أن يعتذر عن الفلتان الأمني الذي صنعه في غزة، وعن مبدئه المنكر الذي أسماه "الخمسة بلدي".
أما آن لفصائل منظمة التحرير كافة أن تعتذر عن قبول أوسلو، والتغطية على خطيئتها، والصمت تجاه حصار عباس لغزة؟
أما آن الاعتذار عن أوسلو والاعتراف بـ (إسرائيل) قبل أن نطالب بريطانيا بالاعتذار عن وعد بلفور، لأنهما يتفقان في الاعتراف بحق اليهود في فلسطين.
إن أية مصالحة فلسطينية يجب أن تقول للمخطئ أنت مخطئ، وأن يعتذر المخطئ عن خطئه، قبل تسوية الدموم وترضية النفوس، وإعادة العمل سويًا من أجل طرد المحتل الغاصب من أرضنا.