مشاعر تغلي كالبركان في صدري.. وكلما ظننت أنها تقادمت وانطفأت أو كادت، عادت لتتَّقد مرة أُخرى.. ضياء يا وجع العمر.. ما أجمل صوتك الشجي أيها الضياء يصدح بالقرآن ويتغنى به! كل شيء من حولي يذكِّرني بك ويعيد سرد أدق تفاصيلك.. أضحك من نفسي الآن، وهل تراني نسيت لأقول "يذكِّرني"؟ فأنا لم أنسَ ضياء أبداً.. أشعر وكأنه ما يزال يعاقر الحياة بيننا، فكل شيء ها هنا يعبق بوجوده وكأنه لم يغب لحظة! وكأن السنوات الماضية قد عبرت دون أن تنتبه لغيابه!
كنت أتمنى له أن يعيش بحرية وسكينة حياة مفعمة بالحركة والنشاط والفرح.. مثل كل شباب العالم ممن همهم السعي في دروب العلم والمعرفة واستكشاف كل جديد، وممارسة الرياضة والمسابقات الفنية والثقافية والعمل والإنتاج وتطوير الأوطان والنهوض بها.. ولكن هيهات.. فهذا الوطن السليب قد ملك قلوب وعقول العاشقين الأحرار أمثال ضياء، فأبوا على أنفسهم الذل وحياة العبيد، وآثروا أوسمة الشهادة المنسوجة من الدم والحرمان على حياة الخنوع والقعود والعبودية.
شاهدتُ ذات مرة طفلاً جميلاً، راعني بريق الذكاء والنباهة في عينيه.. تمنيت في داخلي طفلاً مثله، وكأن أبواب السماء كانت مفتوحة آنذاك، فلم يمضِ وقت طويل حتى أخذ جنيني ينبض في أحشائي، وحين وُلد سميته ضياء على اسمه، وكبر ضياء أنيقاً جميلاً صاحب حضور قوي وجاذبية لا تُقاوم، يقود من حوله ويتربع على عروش قلوبهم بلا عناء.. منذ طفولته المبكرة كان اجتماعياً مرحاً يعشق التميز، ويطور نفسه جسدياً وفكرياً.
قبل أن يدخل ضياء المدرسة سُجن والده عامين كاملين، تنقل خلالهما في سجون المسكوبية وعوفر والنقب، وكلما صحبت ضياء معي لزيارة السجن، أشفقت عليه؛ كنت أرى القهر يركض بخيله ورجله في عينيه.. فيبكي بحرقة وغيظ حين يُكرِهنا الاحتلال على المرور بتفتيش مهين على المعابر أو داخل بوابات السجن.. وهو القهر ذاته الذي أخذت ألمحه جلياً يجول في عينيه عندما أخذ يدرك قضايا الوطن الموجعة وهي تتوالى تتراً.. اعتداءات الصهاينة على المرابطات في المسجد الأقصى، واعتداءاتهم على الأسرى والمقاومين... واعتداءاتهم علينا في البيت عندما يأتون لاعتقال إخوته، فيحتجزوننا في غرفة واحدة ويمنعوننا من الحركة، ويفتشون البيت ويعيثون فيه فساداً..
شبَّ ضياء وقد عاين معاني القهر منذ طفولته.. وحمل همَّ الوطن وأحراره.. فكان إنساناً شديد الحساسية لكل ما يتعلق بهذه الأرض المباركة ومقدساتها.
اتجه لدراسة هندسة الحاسوب في جامعة القدس أبو ديس، يحدوه الطموح لأن يفتح شركته الخاصة في مجال تخصصه الذي يحبه ويبرع فيه.. ولكن قهر المحتل لم يمهله، وأغلق أمامه كل السبل.. كان يشارك في المواجهات ويقود المسيرات ويترأس الوقفات المنددة أو المناصرة أو المطالبة... ويردد دوماً: فإما حياة تسر الصديق*** وإما ممات يغيض العدى
بَلَغني بعد استشهاده أنه قد نظَّم وقفة طلابية في جامعة القدس، تندِّد باقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى، وكان عدد الحضور قليلاً، فألقى بالميكرفون من يده وقال:" أقسم بالله ألا أتكلم بعد اليوم إلا عندما يسبق عملي قولي" وكانت تلك آخر مرة فعلاً.
لم نعرف ليلتها أنه قد خرج لتنفيذ عملية عسكرية على الرغم من أنني لم أكن لأستبعد شيئاً كهذا عنه، خرج آنذاك مثل عادته للنادي الرياضي في خُرسا حيث نسكن، وكان الاحتلال قد سلمه صباحاً طلباً لمقابلة المخابرات في عصيون في اليوم ذاته، مضى وقت قصير حين أخذت تتردد أخبار استشهاد شاب على مثلث خُرسا، شعرت بضيق يقبض قلبي وكأن الأمر يعنيني بشكل خاص، دون أن يداهمني أي شك بأن يكون الشهيد هو ضياء، صعدت لسطح البيت أستطلع الخبر، وتتردد أسماء للشهيد لم يكن اسم ضياء من بينها قبل أن يحاصر جنود الاحتلال بيتنا بعد ذلك بساعات، ويعرضوا صورة الشهيد على والد ضياء ليتعرف إليه ويؤكد أنه ابنه ضياء.. اقتحموا بيتنا، وخربوا محتوياته، واعتقلوا الرجال وروَّعوا الأطفال والنساء.. وانسحبوا وقد سحبوا قطعة من قلبي معهم.
زغردت آنذاك بالرغم من قهري زغرودة جريحة مجلجلة؛ لأزرع الغيظ في قلوبهم كما زرعوه في قلوبنا!
سارع ضياء ليجعل عمله يسبق قوله، حين أخذ يصنع حاجزاً من الحجارة في طريق دوريات الاحتلال، حتى إذا اقتربت دورية توقف جنودها ليزيلوا الحاجز، عاجل ضياء يقذفهم بقنبلته التي تنتظر بشغف أن تحصد أرواحهم. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يفعلها ضياء.. ولكنها كانت الأخيرة.. فقد أمطروه برصاص الغدر، ليرحل شهيداً في تلك الليلة، ويكون الشرارة الأولى التي أضرمت انتفاضة القدس ويهب إخوانه ليأخذوا بثأره.. مهند الحلبي ورفاقه.
رحم الله ضياء التلاحمة وأسكنه فسيح جناته.