إن إتمام توقيع اتفاقيات مصالحة في محطات عدة مثَّل مدخلاً مهماً وضرورياً، ولكن للأسف ما زال مشروع المصالحة يواجه عقبات جمَّة اختفت في أثناء سيف القدس وطفت على السطح بشكل غير وطني وصلت إلى درجة منع الأموال القطرية من الوصول للأسر الفقيرة وتعطيل الإعمار في سلوك عدائي تجاوز الاحتلال وحصاره.
والمطلوب وطنياً أكثر من أي وقت مضى وفي ظل الدمار والآلام والقتل - المضي قدماً في تطبيق برنامج وحدة وطنية على أساس المقاومة والبرنامج الوطني وتدشين حكومة وحدة وطنية مهمتها خدمية فقط على أساس وطني، وعقد الإطار القيادي لمنظمة التحرير بصفته مدخلا لإعادة بناء منظمة التحرير، وأن يقوم المجلس التشريعي بدوره لحين إجراء الانتخابات للوطني التي تشمل الضفة وغزة والشتات، مع آليات واضحة وضمان نزاهة كاملة.
إن لم يتحقق ذلك فمن الضروري الذهاب للخيارات الأخرى ومنها ما لوَّح به قديما السيد عباس بحل السلطة وتسليم مفاتيحها، وأعتقد أنه من الملائم جداً بلورة قيادة للشعب الفلسطيني عبر توافق وطني يضم المجموع الفلسطيني، مع العمل لتوفير عناصر الثقة الداخلية والعلاقات الخارجية، وهذه القيادة تمثل مجلس قيادة الثورة الفلسطينية المستمرة.
ولعل التحول اللافت في سيف القدس تمدد مشروع المقاومة ليشمل جميع الساحات الفلسطينية والصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني والاستعداد العالي للتضحية والوقوف الكامل إلى جانب المقاومة ومشروعها ومن ذلك شخصيات ومؤسسات وتيارات وطنية، وهذا يستدعي المبادرة لإشراك جميع ألوان الطيف الفلسطيني ليس فصائلياً وحسب بل ومؤسسات وشخصيات ونقابات وقطاعات خاصة وقطاعات أهلية.
وما يصاحب ذلك من انفتاح على جميع قطاعات شعبنا الفلسطيني وتعضيد العلاقات البينية وتمتين مشروع الوحدة والاستمرار فيه، ومن ثم دراسة الملفات الكبرى، ومنها حل السلطة وبناء منظمة التحرير مرجعية فلسطينية جامعة.
إن ملحمة سيف القدس أكدت حالة التعاطف الشعبي مع القضية الفلسطينية على الرغم من المخاض الذي يعيشه الإقليم إلا أنها ليست كافية، ولذا فإنها تحتاج إلى تعزيز من زاوية التعريف والتحشيد ومن ثم الاستثمار عبر حملات تعبوية شعبية توفر التمويل الشعبي الذي مثَّل ركيزة مهمة في بعض المراحل من الصراع.
وكذلك على الصعيد الرسمي فإن الحاجة قائمة لتعضيد العلاقة مع عدد من الدول ومنها دول أمريكا اللاتينية وإفريقيا بما يمثل رصيداً لصالح القضية، وبالتالي ليس المطلوب الالتجاء لأحلاف نقيض أخرى، ولكن تعضيد عموم العلاقات على أساس من مصلحة الشعب والقضية وأن تكون القضية عامل توحيد وليس عامل استقطاب محاور وتثبيت الإستراتيجية الجامعة "نحن مع الجميع ما دامت مصلحة القضية تحققت، ولسنا جزءاً من أي محور".
ومن ذلك تعزيز العلاقة الضرورية مع مصر والبناء على دورها في الوساطة سواء في سيف القدس أو في صفقة وفاء الأحرار أو اتفاق 2012م. وبالتأكيد فإن من المهم ملاحظة انعكاس ذلك على معبر رفح الذي يعد ترمومتر هذه العلاقة بحيث يكون مفتوحاً لجميع الناس في كل الأوقات مع معاملة تليق بوشائج الأخوّة والجيرة الحسنة والمصير المشترك، وأن يتطور إلى معبر تجاري ليس بديلا، وإنما إسناد لتلبية حاجات أهلنا في غزة.
والعلاقات الخارجية لا تعني التعامل الرسمي فقط، بل تنفتح شعبياً ورسمياً على المحيط الخارجي، وكذلك من المهم فتح قنوات وتعضيد علاقات مع أحزاب وحركات ومؤسسات وشخصيات عالمية، لأن غزة بعد سيف القدس مثلت مركزية تضامن عالمي ونقطة استقطاب رئيسة.
وهذا يستدعي استمرار حالة التضامن مع غزة بأشكال وطرائق متعددة، وهنا تجدر الإشارة وبالتفاهم مع مصر إلى أهمية تجديد قوافل ووفود التضامن مع غزة للمساهمة بتوظيف حالة التعاطف العالمي اليوم. وهنا لا بد أن يبرز دور للسفارات والممثليات والقناصل الفلسطينية التي بهت صوتها إلى درجة التشكيك أنها في معظمها تعمل ضد القضية. وبالتأكيد فإن هذا التضامن يعد مدخلاً رئيساً لمحاكمة مجرمي العدوان.
بعد أشهر خمسة من ملحمة سيف القدس التي لها ما بعدها، فإن عملية الاستثمار لنتائجها وتداعياتها بيت القصيد الذي يجب أن يراهن عليه الشعب الفلسطيني سياسياً وميدانياً وعمرانياً وقانونياً، وهذا يحتاج لمزيد جهد ووضوح رؤية تترجم دماء طاهرة وجراحاً نازفة وأشلاء ممزقة وآلاماً مبرحة وبيوتاً مدمرة وتشريداً مؤلماً إلى معطيات ووقائع تصنع غداً فلسطينياً متوهجاً لا ينطفئ.