كتب الإعلامي د. ناصر اللحام مقالا بعنوان "خريف الأحلام"، ومما قاله: "نلفت الانتباه إلى أن مناطق (جيم) التي يحكمها الإسرائيليون عسكريا وأمنيا، وتديرها بلديات فلسطينية شبه ذاتية، تبدو أكثر تنظيما ونظافة وهندسة من المناطق التي تشرف عليها البلديات السلطوية، وهو أمر مخجل حقا. حين تصبح هيبة البلدية أقوى من هيبة الأمن، وحين تصبح قرارات المجالس البلدية أهم من قرارات الحكومة، نبني وطنا صالحا للعيش".
من المعلوم أن الكاتب مقرب من دائرة صنع القرار في السلطة الوطنية، وكثير مما كتبه سابقا كان مقدمة لما سيحدث لاحقا، أي إنه في بعض الأحيان يمهد لما هو قادم وصادم، قد تكون تلك مجرد مصادفات وقد لا تكون، حتى لا نظلم الرجل، ولذلك سأعتبر ما اقتبسته من مقاله مجرد وجهة نظر لا أكثر ولا أقل، ولكنها تستحق النقاش.
هذه ليست المرة الأولى التي يقارن فيها اللحام بين القرى والمدن من حيث النظام والإدارة وغير ذلك، ولكنها قد تكون المرة الأولى التي يربط فيها بين السلطة الحاكمة سواء كانت دولة الاحتلال أو السلطة الفلسطينية وبين أداء الهيئات المحلية.
المناطق التي يحكمها الإسرائيليون لا تبدو أكثر تنظيما ونظافة وهندسة من المناطق التي تشرف عليها البلديات السلطوية كما قال اللحام، فهناك مدن أكثر تنظيما من القرى، والعكس بالعكس، مع الأخذ بعين الاعتبار أن أعباء إدارة المدينة تختلف كليا عن إدارة تجمع صغير، وبجولة صغيرة في الضفة الغربية سنلاحظ أن وجهة نظر اللحام بشأن القرى والمدن غير صحيحة، إلا إذا كانت دراسته عن بعض القرى في رام الله وبيت لحم، فتلك مختلفة جدًّا عن كل قرى الضفة الغربية، ولو انتقل إلى شمال الضفة أو وسطها لاختلفت وجهة نظره تماما، والنقطة الأساسية ليست وجهة النظر ذاتها، وإنما أسباب طرحها بهذه القوة.
والآن نأتي إلى زبدة الموضوع، حيث يقول اللحام: "حين تصبح هيبة البلدية أقوى من هيبة الأمن، وقراراتها أهم من قرارات الحكومة، نبني وطنا جميلا". الدكتور ناصر اللحام هنا يتحدث بوضوح أكثر، فهو يربط بين البلديات والوطن، وكأن الأمر تحول من إقامة دولة إلى بناء وطن جميل بغض النظر إن كان محتلا أم لا. كيف يعقل أن تكون قرارات المجالس البلدية "أهم" من قرارات الحكومة، وما علاقة القرارات السياسية والسيادية للحكومة بقرارات مجلس بلدي، وكيف نتصور أن يمتلك أي مجلس بلدي هيبة لا تملكها الأجهزة الأمنية ذاتها؟
ما يقوله الدكتور ناصر اللحام هو أشبه بالدعوة إلى الاكتفاء بحكم البلديات والحلول الاقتصادية بدلا من إقامة دولة فلسطينية وإن لم يقصد ذلك، ولكن ما يبعث على القلق هو استمرار اللقاءات الفلسطينية الإسرائيلية على أعلى المستويات رغم التهديد الفلسطيني في الأمم المتحدة، وما يقلق أيضا هو المشاركة الفلسطينية في إكسبو دبي 2020 جنبا إلى جنب مع دولة الاحتلال، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن السلطة تتعامل تعاملًا طبيعيًا مع دول التطبيع العربي رغم رفضها النظري لجريمتهم، واستمرار العلاقات التطبيعية مع الاحتلال والمطبعين في الوقت الذي يتم فيه طرح الحلول الاقتصادية بدلا من السياسية من الجانب الاسرائيلي يعني أن الأمور تسير بذلك الاتجاه.