قبل انسحاب جيش الاحتلال من قطاع غزة الذي مضى عليه 16 عاما كانت أمنية رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اسحق رابين الوحيدة، بأن يبتلع البحر غزة، وظلت هذه الأمنية تراود جميع رؤساء حكومات الاحتلال عقب اغتيال رابين إذ إنها لم تكن مجرد أمنية عفوية أطلقها رابين، بل لقناعته التامة أن غزة عصية على الانكسار والترويض والتهجين وان غزة لها دورًا كبيرًا في إفشال السياسات الإسرائيلية التي بدأت قبل احتلالها في عام 1967.
لذلك شكلت غزة منذ احتلالها عام 1967 معضلة كبيرة لدولة الاحتلال وقادته لأنها شكلت رأس الحربة في مواجهة كافة المخططات التي رسمت لتصفية القضية الفلسطينية بدءا من مشروع التوطين وليس انتهاء بكل مشاريع تسوية القضية الفلسطينية.
صحيح أن غزة فقيرة في الموارد وتسجل أعلى كثافة سكانية في العالم لكنها صنعت مجدها بأظافر مقاومتها وغالبية سكانها من اللاجئين الذي طردوا وشردوا من أرضهم خلال المجازر التي ارتكبتها العصابات اليهودية قبل عام 1948، إذ يشكل اللاجئون في القطاع ما نسبته 75%، من إجمالي عدد السكان.
واقع غزة الاستثنائي دفعها لأن تأخذ منذ البداية زمام المبادرة في المقاومة والنضال في التاريخ الفلسطيني المعاصر. فمن غزة أُعلن قيام حكومة عموم فلسطين في نهاية أربعينات القرن الماضي، وعلى أرضها كانت بداية تشكيل منظمة التحرير عقب زيارة أحمد الشقيري لها وخطابه هناك، ومنها كانت بدايات تشكيل أغلب فصائل الكفاح المسلح والعمليات الفدائية وفيها تشكل أكبر تنظيم مقاومة فلسطيني تمكن من كسر قوة الردع الاسرائيلي في اربع حروب متتالية كما ان غزة كان لها دور كبير في افشال مشروع التسوية اوسلو.
ونظرا للدور الكبير لغزة حاولت حكومات الاحتلال المتعاقبة منذ عام 1967، وحتى بداية انتفاضة عام 1987 تطويع غزة وسكانها من خلال توظيف أشكال من التطبيع الاقتصادي والذي تمثل في فتح أسواق العمل الإسرائيلية أمامهم واغرائهم بالأموال ونشر الفساد والرذيلة في المجمع الغزي بهدف ضمان تعايشهم مع الاحتلال ولكن جاءت انتفاضة 87 لتحطم كل مخططات الاحتلال وتقلبها راسا على عقب وتُفِشل كل الجهود التي بذلت لتطويع اهل غزة وجعلهم ينسون الاحتلال وينسون قضيتهم.
وفي ظل هذا المعادلة تبرز غزة كواحدة من الملفات الشائكة أمام صانعي القرار في دولة الاحتلال حيث افشلت بصمودها وبمقاومتها كل مساعيهم المستمرة لتغيير قواعد الاشتباك او ايجاد حلول عملية لضمان الهدوء وتوفير حياة مستقرة لسكان الشريط الضيق الذين يخضعون لحصار جاثم على صدورهم منذ اكثر من اربعة عشر عاما.
ولابد من الإشارة الى ان ملفات عديدة مطروحة على طاولة صناع القرار في (إسرائيل) من بينها ملف التهدئة طويل الامد مع فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة بالإضافة الى ملف الجنود الاسرى المحتجزين لدى حركة حماس وكذلك ملف الحصار الذي انهك المواطنين والقى بلال سلبية قاتمة على مجمل الاوضاع الفلسطينية في هذا الشريط الضيق الذي يعتبر اكثر مناطق العالم كثافة في السكان.
تفرض غزة نفسها على اجندة الحكومة الإسرائيلية الجديدة التي تشكلت بعد معركة سيف القدس وفق تركيبة عجيبة، كخيار للهروب من استحقاق الانتخابات لذلك تسعى حكومة بينيت الضعيفة الى تفكيك الموضوعات المرتبطة بغزة لأن نجاحها في ذلك يعني ارضاء الجمهور الإسرائيلي الذي ينتظر من حكومة بينيت خطوات لمعالجة موضوع غزة ويضغط في هذا الاتجاه متزامنا مع ارتباطات إقليمية ودولية ضاغطة في هذا الاتجاه ويترافق ذلك مع رغبات أمريكية تسعى لتهدئة المنطقة.
لذلك يمكن أن تنجز الحكومة صفقة تبادل الاسرى التي ظلت (اسرائيل) لسنوات تتعنت في الاستجابة لشروط المقاومة وقد نرى قريبا صفقة تخرج للنور تضمن تحرير اسرى بمحكوميات عالية وتهدئة لسنوات بفضل اصرار المقاومة وتمسكها بشروطها .
وقد بدا واضحا من خلال تصريحات قادة الكيان انهم غير معنيين باي تصعيد او جولة قتال جديدة في غزة، وقد اكد ذلك زعيم حزب "يسرائيل بيتنا" أفيغدور ليبرمان، بالقول أن "إسرائيل ليس لها مصلحة في التصعيد مع قطاع غزة" .
ليبرمان في مقابلة مع قناة "كان" العبرية، قال "في موضوع قطاع غزة سيتعين علينا معالجتها بشكل متعمق وشامل وبإجماع إسرائيلي واسع وأن المصلحة الإسرائيلية هي ضمان أمن سكان الجنوب "سكان مستوطنات غلاف غزة".
أن موضوع غزة ليس فقط مهم لدى الحكومة الإسرائيلية التي لديها رغبة لديها إنهاء ملف غزة بهدوء لأنها تدرك أن غزة قد تفجر مواجهة هي في غنى عنها الآن، بل هو مهم أيضًا لدى الإدارة الامريكية، التي تضغط لمحاولة تليين الموقف الإسرائيلي لأنها لا تريد مواجهة تربك الملفات المختلفة.
على الرغم من ذلك هناك تباين في مواقف الاحزاب وقادة الكيان في مسألة التعامل مع مقاومة غزة فهنا من يدعو لانهاء المقاومة عبر عملية عسكرية كبيرة ويؤيد ذلك مئير بن شبات مسؤول الشاباك السابق الذي قال ينبغي أن يكون هدف (إسرائيل) على المدى الطويل هو تحويل قطاع غزة من منطقة أمنية إلى منطقة منزوعة السلاح.. في ظل نظام يعترف ب(إسرائيل) ولا يستخدم العنف ضدها.
ومضى يقول: "إن تحقيق هذا الهدف ممكن بطريقتين أو من خلال عملية عسكرية كبيرة وعميقة على غرار الجدار الدفاعي، وهذا له أسعار باهظة، أو من خلال التآكل المنهجي لحماس على جميع المستويات وقيادة السكان إلى إدراك أن هذا نظام فاشل وفاسد، وأن الوقت قد حان لوضع حد له".
وبخلاف ذلك هناك تيارات اخرى ترى ان حل مسالة غزة يكون من خلال الجانب الانساني والدعم الاقتصادي وفي ذلك يقول محلل الشؤون العسكرية في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، أليكس فيشمان، ان ، هناك خلافات بوجهات النظر بين القادة في (إسرائيل) حيال التعامل مع قطاع غزة ومشاريع إعادة إعمار القطاع، والموقف المستقبلي من حكم حماس للقطاع، وسبل مواجهة التصعيد والحراك الفلسطيني .
موقف وزير الأمن من قضية غزة مغاير ومختلف تماما. حيث قال إن "تحركنا الإنساني في قطاع غزة سينفذ من التزامنا كبشر وليس على افتراض أن هذا سيمنع الإرهاب، وبدون حل لمسألة أسرى الحرب والمفقودين، لن يكون هناك أي شيء".
وأمام هذا المشهد المعقد وبقاء الفلسطينيين بدون مساندة اقليمية قوية فمن واجب الفلسطينيين البحث عن أوراق القوة التي يمتلكونها، في مقدمة ذلك إنجاز المصالحة ووحدة النظام السياسي الفلسطيني، والسعي لحل مشاكل القطاع الإنسانية ومواجهة مخطط عزل القطاع عن الضفة عبر تحقيق الوحدة الوطنية.
وايضا يتوجب على الفصائل الفلسطينية الرد على الجرائم الإسرائيلية من خلال تفعيل خيار المقاومة الشعبية بكل ادواتها، وكذلك العمل على إشراك النخب السياسية والقوى السياسية والمجتمع المدني في التفكير بالخروج من حالة التيه التي يعيشها شعبنا.