فلسطين أون لاين

محكوم بالسجن 35 عامًا

"النوم بلا ألم".. حلم الأسير المُقعد أيمن الكرد

...
أيمن الكرد (أرشيف)
غزة/ يحيى اليعقوبي:

يجر كرسيه المتحرك بمفرده، تملأ آثار الضرب وجهه، ذنبه أنه قطع ستار صمته في وجه شتائم السجانين طوال الطريق إلى السجن عائدًا من "المحكمة" التي قضت بسجنه 35 عامًا، دافع عن نفسه بيدين مقيدتين وقدمين هامدتين لا تقويان على الحراك.

رفيق دربه في السجن محمد البكري يسمع طرقعة مفاصل قدم أيمن (22 عاما) وكأنَّها توشك على الخروج من المفصل من شدة الضرب، مشهد جعل محمد ينتفض غضبًا وهو ينظر لتلك الكدمات: "مين اللي عمل فيك هيك؟!"، قاطعًا وعدًا أمامه بعدما قص عليه ما حدث بألا يتركه وحيدًا يستفرد السجانون به مرة أخرى، ثم نادى محمد على الأسرى الذين انتفضوا رافضين اعتداء السجانين على الأسير الشاب المقعد أيمن الكرد لحظة إصدار الحكم عليه، في مشهد يجسد لحظة ألم واحدة عاشها أيمن مئات الأيام لم يذق فيها طعمًا للنوم.

في وقتٍ كان أيمن يرفع يديه إلى السماء راجيًا أن يأتيه أسير من سنه، يعينه ويرعاه في السجن ويخفف آلامه، كان محمد البكري الذي أسره الاحتلال عام 2014م، واجتمع مع أيمن في قسمٍ واحد منذ عام 2018 حتى الإفراج عنه في شهر مايو/ أيار 2021م – كأنه "هدية السماء" إلى أيمن، فما فعله محمد مع صديقه أدهش جميع الأسرى والسجانين معًا، فكان يمضي معظم الوقت برفقته عله يخفف أوجاع قدميه من أثر الإصابة، أمام رفض سلطات السجون إجراء عمليات جراحية له وتركه يصارع "ألوانًا شتى من العذاب" بمفرده.

اللقاء الأول

من بوابة الذاكرة يدخل محمد المفرج عنه قبل ثلاثة أشهر إلى السجن مرةً أخرى، صورة اللقاء الأول الذي جمعه بأيمن تقفز أمامه: "جاءنا إلى سجن جلبوع قادمًا من عيادة سجن الرملة أو بالأحرى من المقبرة بعد عامين أمضاهما هناك، رأيت الوجع في ملامح وجهه على الرغم من أنه لم يتحدث (..) كان شيئًا غريبًا على الأسرى أن يأتي أسير على كرسي متحرك، خاصة أنه في مقتبل العمر، فتىً صغير مثل الورد، التف الجميع حوله ومن وقتها أحببت مساعدته".

فهم محمد نفسية أيمن الذي "يكره نظرات الشفقة من الآخرين"، لا يريد أن يشعر بالعجز فتعامل معه بطريقة مختلفةٍ: "كنت ألاعبه ألعابًا رياضية كي ينسى ألمه، أمازحه وأحاول قدر الإمكان إشغاله عن الألم الذي ينخر قدميه".

حتى الرياضة في السجن لا يوجد منها سوى الاسم، إن جازت تسميتها بذلك فالأسرى يصنعون أدواتها، رفع الأثقال التي كان محمد يدرب أيمن عليها، كانت بتعبئة الملح في زجاجات فارغة لتصبح ثقيلة نوعا ما فيرفعها بيديه لتقوية الساعد، وتمارين أخرى "فقد كنت أحمله ليمسك بقطعة حديدية مثبتة بأعلى الحائط وأساعده في حمل نفسه صعودًا ونزولًا، أو أضعه على فرشة على الأرض للعب تمارين الأحمال (صدر معدة) بشكل يناسب وضعه، وهذه التمارين لإزالة التقرحات التي في ظهره نتيجة مكثوه ساعات طويلة على الفراش".

داهمته ضحكة، قبل أن يتابع: "كنت ألعب معه لعبة ثني الذراعين وأجلس على كرسي مثله، ونلعب تنس الطاولة بنفس وضعيه الجلوس وكان الأسرى معجبين بهذا الجو، تناولت الطعام مثله من غير بهارات، حتى لا يشعر أنه مختلف عن الناس، أوقظه لشرب الدواء، أو لتدليك قدميه من أجل تخفيف الألم".

حلم وحيد

حال أيمن كان "يبكي الحجر"، يصف محمد الواقع الذي يعيشه أيمن ولا تعبأ به إدارة سجون الاحتلال، "كتير رحنا على إدارة السجن، وكان الجواب الدائم: هادا مشلول أوتار.. بنقدرش نساعده، كنا نشوف رجليه بترتعش كأنه الكهربا ماسكة فيه ".

يطل أكثر على معاناة أيمن: "بتعرف، لما كان يتشنج فجأة ويستسلم لنفسه حتى يرتخي الألم ويزول عنه، كنت أرتجف لأجله، لا أستطيع فعل شيء له، حتى حبة الأكامول لم تعد تؤثر به (..) سلطات السجن رفضت إدخال فرشة طبية له، كون فرشة السجن أحدثت تقرحات به، وحتى الآن ترفض إدخالها، يستصعب ارتداء الملابس، حتى الاستحمام لديه مختلف، فقد يستغرق وقتًا طويلاً".

يضيف محمد متأسفا على حال أيمن: "تخيل أن حلمه أن ينام يومًا مرتاحًا دون أن يزوره الألم الذي هو ضيفه الدائم".

لم يدون محمد فقط مواعيد المسكنات، بل كل شيء يحبه أيمن، حتى المواضيع التي تضحكه، ""استخدمت الضحك للسهر معه حتى ساعات الفجر ولإلهائه عن الألم".

يقلب صفحة أخرى مخرجا موقفًا من أرشيفه مع أيمن: "ذات مرة صرخ في أثناء الاستحمام، وحين دخلت عليه لأتفقده وجدت النافذة قد سقطت على قدميه، كأنما ينقصه وجع جديد!! (...) حملته إلى السرير ليرتاح، وبينما أقرأ على رأسه القرآن، أسند رأسه على كتفي وقال لي: "أنت هدية ربنا الي.. إذا طلعت بهذه الحبسة بسلام فبكون أنت السبب".

أمام هذا الارتباط كانت سلطات السجن عندما تريد شيئا منه تطلب مني تجهيزه، كإجراء فحوصات طبية أو تسلم المسكنات، "لأني كنت أرفض تركه يذهب وحيدًا معهم، بعد حادثة الاعتداء عليه، وفي مرة أخرى أسقطه سجان قصدًا عن كرسيه المتحرك".

كان أيمن يحسب وقت خروج رفيقه محمد من السجن لحظة بلحظة، تنهمر كلمات الوجع من صوت محمد: "لم أشعر بمتعة الحرية منذ ثلاثة أشهر، كل يوم الساعة الخامسة مساءً أتذكر موعد حبة الدواء لأيمن، أتساءل من يخفف ألمه في الليل؟ من يسهر معه؟ كيف يمضي وقته؟ (..) لحظة الوداع كانت قاسية، عانقني لعدة دقائق، كنت قد وضعت له رسائل تصبره في ملابسه، وتحت وسادته، وفي علبة الدواء، وفي كل مكان اعتاد الالتقاء بي فيه، أذكره أن لنا في القدس لقاء، حبست دموعي عنه لكني أسقطتها بعدما فارقته".

مصابرة

في الرسالة.. "بسم الله وكفى، أما قبل فسلامٌ لبذلك وجهدك وصبرك الأسطوري، أما بعد أخي أيمن عندما كنت أنت في أشد الأوقات وحدة وقهرًا، وفي مكان لا يتمناه أحد لأحد، وفي قعر هذا السجن اللعين، رفعت يديك المكبلتين للسماء، وقلت: يا رب، وأصبحت في أمسِّ الحاجة لأخٍ يكون لك عونًا وسندًا، في هذه البقعة المنسية، ومنذ أن انتهيت من الدعاء، فإذا بالتدخل الرباني يوصلني إليك، لأكون عونًا لك، لتبدأ تلك الرحلة التي رأيت من خلالها تلك الصرخات المختومة بداخلك، وحكاياتك المغمسة بالدم".

بين ثنايا كلمات محمد لأيمن وجع لا يزال يرافقه: "حين رأيتُ استنادك عليّ، عندما كانت آهات الوجع تشق سكون الليل، فما زادني ذلك إلا شرفًا ومحبةً دخولي مربع الثقة العلياء التي منحتني إياها، وها هي الرحلة تمتلئ بالمحبة والإخلاص والوفاء، وفي الختام أيها الأيمن: دقت ساعات الفراق، وأزف الرحيل، ولم يبقَ سوى بضعة أيام، فاجعل لي من دعائك نصيبًا".. ثم قطع وعدًا بحتمية اللقاء مرة أخرى خارج أسوار السجن.. "وإن طال الزمان سنبقى على العهد، ولنا في القدس لقاء".