فلسطين أون لاين

​الله يديمها الضحِكة

...
غزة - آلاء المقيد

أول مرةٍ يطّل علينا رمضان كقمرٍ غطّته غيومٌ سوداء ذات ليلة شتاء عاصفة, قلوبنا جريحة, لم نتجاوز بعد هَول الصدمة بعد أن فقدَ بيتنا عموده الفقري, أخي الصغير عز الدين الذي لم يتجاوز من سنين عمره إلا أربعًا لم تُسعفه مداركه بعد ليفهم ماذا يعني أن يأتي رمضان للمرة الأولى دون روحانية الأم وبركتها.

كم أنا مندهشةٌ من صمودكِ _يا أمي_ أمام كل ما مررتِ به من تجارب تقصم الظهر, لم تكوني "ست بيت" فحسب, بل امرأة قوية تُواجه شظف الحياة من أجل أبنائها, تنبش بين الصخور لتبحث عن الفرح, وتُهديه إلينا بمنتهى الحنان.

أرتب غرفتكِ بصمت وكثيرٍ من الشوق, أغالب الدموع فتغلبني, ليس ثمة ما يُخفي بصمتكِ من البيت؛ ففي كل زاوية لكِ سجدة, هنا وهنا وهناك، وعند كل صلاة فجر يُنبهني صوتك لتُنادينا للصلاة, أفزع من نومي وأنسى أنكِ متِّ؛ فأسارع إلى البحث عنكِ وإذا أنا لا أجدكِ, وصاياكِ الجميلة بالحفاظ على البيت في غيابك أحفظها كاسمي, وقتُ السحر يشتاق إلى دعائكِ وهو يرتفع من فؤادكِ الطاهر إلى رب السموات السبع, وحتماً أخي عز الدين نال من أدعيتها الكثير كيف لا وهو "آخر العنقود"؟!

حبيبي "عزّ" ستدرك حين تكبر معنى كل كلمةٍ قالتها أختك الكبيرة بُدور، حتى إني أتمنى أن يكون اسم "بدور الزنط" أمام الله في قائمة الفتيات الأكثر برّاً بأمهاتهن بعد وفاتهن, كانت أمنا تصرّ على خلق أجواء البهجة في بيتنا المتواضع، ومع تراجع حالتها الصحية تذهب لتتسوق احتياجات الشهر الفضيل كما يفعل الناس, تُحدثنا عن روحانية رمضان وفضله, تُجهز القطائف الذي صار طعمها بعدها علقماً, تطلب مني أن أحضر الشاي لنتسامر بعد صلاة التراويح, فأحاديثها معنا كانت تُوِقف الزمن, فننسى كل شيء, وتتجاوز مرارة الحياة، ولو لحظات, وتظل تتأمل ضحكاتنا وعيناها تدعوان: "الله يديمها الضِحكة".

لم تكن تُفلت من يدها فرصة لإسعادنا, تسأل كل واحدٍ منّا عما يطيب له من الطعام, كلنا يُجمع بلا تردد أن "المفتول" من يديها لا يُضاهيه مذاق آخر من أطايب الطعام, رحم الله أمنا ورزقها عجائب الفردوس كما طيبت طعامنا وحياتنا.

استطاع "السرطان" أن يستنزف من طاقتها وعافيتها على مدار عامين, لكنه لم ينل من نور قلبها ولم يسلب الحب والقوة من داخلها, حتى آخر نفسٍ لها بالحياة.

فلم يمنعها مرضها من الأناقة والبهجة، ما أجمل صباح العيد الذي كان يأتينا بوجهها, حتى حين قسا عليها السرطان وتساقط شعرُ رأسها, كانت تستر عيب هذا المرض بحجابها, وتتزين لتطل علينا كالبدر.

هي كما ذكرت _يا عز الدين_ تُحب الحياة ما استطاعت إليها سبيلاً، كنت أعتقد أن لكل موسمٍ بهجة، لكني اكتشفت أخيراً أن أمي هي بهجة رمضاناتنا وأعيادنا وروتيننا اليومي, لذا كان رمضاننا هذا العام أول مرةٍ يعج بالحزن والعجز لتتآكل أرواحنا بصمت.

حين تكبر _يا عز الدين_ ستسألني عن أمي, ستبحث عنها في ذكرياتنا, لست محظوظاً _يا صغيري_ لأنك ستعيش عمراً كاملاً دونها, دون حبها وعطفها وتوجيهاتها, وشدّتها.

ناديتَ عليها: "ماما" بعد وفاتها بأيامٍ ولم تُجبك, فحاولتُ أن أعوضك في تلك اللحظة بحضن فؤادي, شاء الله أن أتقمص دور الأم، لكن أتعرف ما الأصعب؟، أن أمي لا يمكن أن تكون لها نسخة مقلّدة.

حين تكبر وتعرف أكثر عن أمنا ستهرع إلى قبرها باكياً، كما يفعل أخونا الكبير نائل اليوم كلما شدّه الحنين إليها.

لو عاشت أمي عمراً أطول من عمرها لكنت أنتَ من تُنافس نور في حبها, نور التي لولا فضل الله ثم أمي لما أتمّت حفظ القرآن كاملاً, نور التي تطلب كل ليلة من الله أن يأتيها طيف أمي في المنام، ولم يحقق الله أمنيتها بعد.

لا تقلق _يا عز الدين_ سأجتهد لأكون شبيهة بأمي, سأذهب بك إلى السوق ليلة العيد وأشتري لك الملابس الجميلة, سنُطفئ شمعة ذكرى ميلادك كل عام كما كانت تفعل أمي, سأحميك من الحياة, وأقدم لك الفرح وأخاف عليك من نسمة الهواء الباردة, سأحبك كما أحبتنا أمي.

السلام على أول الأوطان وآخر المنافي, السلام عليها كلما أتى رمضان ومضى، والسلام عليها في كل عيد، والرحمة لها في كل آن.