لا يمكننا في عصر الثورات التكنولوجية أن ننكر أن فضاء الإعلام بات محورًا أساسيًّا في إدارة الصراعات والمناكفات الداخلية والخارجية، في الوقت الذي تلاشى فيه مفهوم النصر التقليدي والحسم العسكري، واستبدل القتال في الميدان والجلوس داخل الدبابات بساحة القتال على الفكر والوعي والمكوث خلف الشاشات، وهذا لا شك أنه انتهاك لأخلاقيات الصحافة، وانحراف عن مقاصدها وأهدافها.
مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي أصبح من غير الصعب معرفة الأساليب والمفردات التي ينتهجها الإعلامي الإسرائيلي في خطابه المبرمج نحو المجتمع الفلسطيني تبعًا لمتغيرات الواقع الزمانية والمكانية، التي تتقاطع مع الأهداف القومية الإسرائيلية العامة في حالة من التلازم الكامل على المستويين الحكومي والخاص مع بقية مؤسسات الكيان لا سيما المؤسسة العسكرية سعيًا لتحليل صورة الفلسطيني والتأثير في فكره ومن ثم سلوكه.
يتخذ القتال الإسرائيلي في ساحة الوعي مع المجتمع الفلسطيني سواء في الضفة وغزة أم الداخل المحتل عام 1948، أم خارجهما، طرقًا ووسائل عدة منها إثارة الإشاعات والبلاغات الكاذبة والدعايات والتعتيم الإعلامي، وهذا ما شاهدناه علانية خلال الفترة السابقة بالتحديد في أثناء مطاردة واعتقال الأسرى المحررين من نفق الحرية.
من الجدير بالذكر أن المؤسسة العسكرية لـ(إسرائيل) حولت الوحدة المتخصصة بنشر الأخبار الملفقة من وحدة استخبارات لوحدة عملياتية، أي إنها أصبحت جزءًا من شعبة العمليات العسكرية بعدما كانت جزءًا من الاستخبارات العسكرية، بمعنى آخر أنها تقوم بتنفيذ ما يسمى عمليات في ساحة القتال على الوعي على غرار تنفيذ عمليات عسكرية ملموسة، وهذا يعكس مدى أهمية الشائعة والأخبار الملفقة في المواجهة، بالتأكيد ضمن طواقم متخصصة بإدارة المحتوى على منصات التواصل الاجتماعي.
في معركة سيف القدس حاول الاحتلال ممارسة التضليل والخداع مع فصائل المقاومة بشكل خاص مستخدمًا وسائل الإعلام العالمية عبر الإيهام بأنه بدأ باجتياح القطاع، لكن هذه الخدعة لم تنطلِ على المقاومة؛ ما أفشل مخططاته وسجل نقطة لصالح المقاومة، في محاولة لاستنساخ تجربة خاضها مع حزب الله، ففي عام 2019 شن حزب الله هجومًا صاروخيًا على قاعدة في أفيفيم العسكرية، جيش الاحتلال حينها قال إنه وضع دمى ودماء مزيفة في المكان الذي استهدفه الحزب ومارس التضليل والخداع، وعليه فإذا صح ذلك فإن "إسرائيل" تحملت قيام حزب الله بشن عملية عسكرية قتالية روتينية وردت عليه بهجوم كبير على مستوى عمليات الوعي، حتى إن حزب الله لم يدرك ذلك إلا متأخرا.
أما عند الحديث عن المبالغ في الوقائع فيمكننا العودة 20 عامًا إلى الوراء تحديدًا في عام 2002 عندما روج الإعلام الإسرائيلي صورة من وجهين تمهيدًا لاجتياح الضفة الغربية في عملية "السور الواقي"، الأولى كانت موجهة للمجتمع الإسرائيلي، ومفادها بأن هنالك ضرورة قصوى لتنفيذ هكذا عملية وتحمل درجة مخاطرة عالية، وأنها أشبه بحرب التحرير، أما الوجه الثانية فكانت إلى المجتمع الفلسطيني، وحملت أن هنالك ترسانة عسكرية تمتلكها المقاومة في الضفة تعمل وفق خطط عملياتية، إضافة إلى التحصينات، وبذلك لن يستطيع الجيش اقتحام المدن خوفًا على حياة جنوده، ما أدى إلى توزيع عناصر المقاومة في مناطق متباعدة أو اجتماعهم في مناطق محددة ومحصورة كالبلدة القديمة في نابلس ومخيم جنين مثلًا؛ ما جعل السيطرة على المدن وحسم المعركة سهلًا جدًا.
الصورة تكررت مع مدينتي الناصرة وجنين أيضًا، ففي حالة الناصرة وبُعيد اعتقال محمود العارضة ويعقوب قادري، سارع الإعلام الإسرائيلي إلى نشر ما وصفه بتفاصيل عملية الاعتقال والتي تضمنت أن عربيًا من سكان المدينة قد بلغ عن الأسيرين؛ ما أثار موجة غضب عارمة في وسائل التواصل الاجتماعي على أهل الناصرة وصلت حد الشتم والتخوين والإهانة، أما مع جنين فانتهج تضخيم صورة المدينة بشكل هائل جدًا وصورها بأنها تمتلك ترسانة عسكرية تواجه ترسانته، مضافًا إلى ذلك أن حربًا ستندلع إذا أقدم على اجتياحها، وسيسقط قتلى وجرحى، وهكذا حتى طبعت هذه الصورة في عقل المجتمع الفلسطيني.
حينما أعيد اعتقال الأسيرين المتحررين مناضل انفيعات وأيهم كممجي، سعى الاحتلال إلى إبراز صورتين: الأولى عرضت للمجتمع الإسرائيلي بأن الجيش خطط وخاطر وخاض مغامرات من أجل اعتقال الأسرى المتحررين، أما الثانية إلى المجتمع الفلسطيني، حيث سعى الاحتلال إلى أن يكسر صورة جنين في أذهان الناس، ويبدد هذا النموذج الذي أصبح ملهمًا للشباب في الضفة الغربية، ويزرع اليأس بعد أن بثت عملية نفق الحرية روح الأمل في نفوس الشعب المقهور، ويبقي على فكرة تفوقه في أذهاننا على الرغم من الهزائم التي حظي بها في جولاته مع غزة.
الصورة الحقيقة هي أنه لا شك بأن عملية التحرر ضربة في قوة الردع، كما أن ما تمتلكه جنين لا يقارن بحجم ما يمتلكه الاحتـلال، وهي مدينة كبقية مدن الضفة، يمتلك أهلها الوطنية والشجاعة والإرادة والنخوة، وما حدث فيها قد يحدث بأي مدينة أخرى، كما لا ننسى أن اشتباكًا قد وقع في منطقة التمويه، وأن أيهم ومناضل كانا في بيت عائلة احتضنتهم وحفظتهم.
إذن، سخرت الإمكانات الهائلة المتاحة لوسائل الإعلام الإسرائيلية في بث الأخبار المضللة وتدفق الشائعات وتضخيم الواقع خلال المواجهة والأحداث الساخنة بهدف تدمير النسيج الداخلي وتفكيك العقد الاجتماعي، وبناء أسوار داخل المجتمع الواحد لكي يصبح أفراده أسرى لتلك الأخبار، وعليه يكون من السهل تقويض الثوابت والمسلمات التي يتفق عليها في مواجهة العدو، ولذلك نحن في أمس الحاجة إلى جهاز منظم يتمتع بالخبرة كي يفند الأخبار الكاذبة حتى نتمكن من الحفاظ على الحد الأدنى من الوحدة الوطنية والاجتماعية داخل المجتمع الفلسطيني والعربي.