يتـــــساءل السياسيون والمحللـــون والمفكرون بعد سيف القدس، وتشديد الحصار على غزة عن حسابات حماس، وهل بدأت تفقد الخيارات؟
تقف حماس بعد سيف القدس على مفرق مهم، منذ أطلقت مشروعها المقاوم للاحتلال بكل عنفوان مع نهاية عام 1987م، تحديدًا مع انطلاق انتفاضة الحجارة، وخلال 34 عامًا تدرجت حماس في العمل المقاوم للاحتلال، من ثورة الحجارة والمسيرات الشعبية إلى ثورة السكاكين إلى العمل الفدائي العسكري إلى العمل الاستشهادي، وكانت مرحلة تأسيس السلطة المخاض العسير للعلاقة الوطنية مع حماس، التي مثلت فيها انتفاضة الأقصى الانفراج في العلاقة، ليندرج الجميع في هبة مسلحة انتهت بانسحاب الاحتلال من قطاع غزة، وقعت حماس حركة مقاومة في حصار سياسي عربي ودولي بشكل قاطع بعد انتخابات 2006م، التي مثلت نتائجها العلامة الفارقة التي مثلت النافذة التي أطلت حماس منها على العالم وسُمع صوتها السياسي على نطاق متباين.
يبدو للواهم أن حماس تفقد الخيارات، مع العلم أن الاحتلال ومن وقف معه هم الذين يفقدون الخيارات، خاصة بعد تلاشي حل الدولتين، وانهيار مسار التسوية الذي يمضي إلى موت محتوم، إلا إذا ذهب بعضٌ إلى صفقة مسمومة جديدة.
حماس اليوم متجذرة في الأرض الفلسطينية بعيدًا عن الإملاءات والاشتراطات والارتهانات، رغم المقاطعة الدولية انتصر الشعب الفلسطيني على الحصار، ومن يزر غزة اليوم يدرك ذلك جيدًا، وقدمت بقليل من الإمكانات وكثير من الصعوبات والمعوقات نموذجًا للعمل الوطني الفلسطيني، واستطاعت بناء شيء من الحياة في غزة الجريحة التي غدت قبلة الأحرار في العالم، ومرفأ الظامئين إلى النموذج الذي يقول (لا) للظلم والظالمين، ولا يمنع هذا الحديث عن تجاوز فردي في بعض المرافق والمفاصل، الأمر الذي يحتاج إلى معالجات فورية حكيمة تحافظ على النموذج وترتقي بالأداء.
وأمام حماس الكثير من الخيارات اليوم، فأمامها السعي لتحقيق الوحدة الوطنية الجادة والأمينة، رغم الجراح في الضفة التي تنهض وتنبئ بإرهاصات ديمومة انتفاضة القدس، وترتيب البيت الداخلي الفلسطيني بإعادة بناء منظمة التحرير على أساس الشراكة الوطنية، وإعادة تنفيذ مرسوم الانتخابات التشريعية لتشكل مدخلًا لتشكيل حكومة الوحدة الوطنية على أساس برنامج سياسي وطني مشترك متفق عليه، يعيد الاعتبار للقضية الوطنية قضية تحرر من الاحتلال بعد دفن أوسلو، ويندرج ضمن ذلك إصلاح المنظومة الحكومية والأمنية على أساس من المهنية، وأن يستمر العمل في السياق ذاته على كسر الحصار بكل أشكاله نهائيًّا، ومن ذلك الحصار السياسي، مع استمرار تحمل المسئولية الإنسانية والاقتصادية عن الشعب الفلسطيني المُحاصَر، وتحميل المسئولية الإنسانية كذلك للاحتلال والإدارة الأمريكية المُحاصِرين للشعب الفلسطيني، وما يترتب على ذلك من معارك قانونية وسياسية تسعى إلى نزع الشرعية عن الاحتلال وكشف السوءة لمن يتواطأ مع الحصار ويتعاون مع المحتل، وما يحتاجه ذلك إلى إبداع جديد واتساع لجبهة المواجهة، وقدرة على التحشيد والبناء في الوقت ذاته، وفي هذا السياق تبدو المقاومة التي اتسع نطاقها -خاصة بعد ملحمة سيف القدس- الورقة الأقوى في يد حماس، وإن تنوعت أشكال المقاومة بالضفة وغزة ومناطق الـ(48) والخارج، فكلٌّ يقاوم على قاعدة إدارة الصراع ووفق منظور المشروع الوطني الكبير في التحرير والعودة.
جسدت حماس خلال سيف القدس رؤية جديدة حكيمة للعمل الفلسطيني المقاوم السياسي بوصلتها القدس والمسجد الأقصى، ومتشبثة بحق العودة والإفراج عن الأسرى والدولة المستقلة على حدود 1967م، مقابل هدنة مع الاحتلال، وتسعى إلى إعادة بناء منظمة التحرير على أساس التمثيل الحقيقي للشعب الفلسطيني، وتقبل العمل مع القوى الفلسطينية كافة على أساس من الوحدة الوطنية الجامعة، والتداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات النزيهة والشفافة، وعدم الارتهان للمواقف الأمريكية والإسرائيلية، وتوجَّت كل ذلك بتقديم نموذج من التضحية والفداء عبر قوافل من الشهداء والاستشهاديين والمعتقلين والجرحى والمبعدين، وعلى رأسهم جيل القيادة الشهيد، والفرقان، ووفاء الأحرار، وحجارة السجيل، والعصف المأكول، وسيف القدس خير شاهد.