حالة من التخبط السياسي تعتري حكومة الاحتلال في التعامل مع معضلة قطاع غزة، الذي تحت حصار مستمر منذ أكثر من 14 عامًا، تخللها 4 حروب مدمرة وعدد من المواجهات المتقطعة.
ودليلًا على الفشل الكبير في التعامل مع المقاومة في غزة بدأ قادة الاحتلال أخيرًا التحدث عن خطط وإستراتيجيات جديدة في تعاملهم مع القطاع، وهي امتداد لخطط اقتصادية في التعامل مع القضية الفلسطينية تحت مسمى "السلام الاقتصادي" أو الاقتصاد مقابل الهدوء.
فقد طرح وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد خطته التي تركز على تحسين الوضع الاقتصادي في قطاع غزة وإعادة إعماره، مقابل الهدوء وهدنة طويلة الأمد مع فصائل المقاومة.
إن هذا التغيير في طريقة التفكير الإسرائيلي تجاه غزة لم يكن كرمًا من الاحتلال، أو إنسانية زائدة، أو رغبة في حل مشاكل غزة المنهكة من الحصار والحروب، وإنما جاء بعد الوصول إلى قناعة أكيدة بأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال إدخال غزة لبيت الطاعة بالقوة العسكرية، ولا يمكن نزع سلاح المقاومة في غزة.
لابيد الذي ينتمي لمعسكر الوسط، وهو واحد من ثلاثة يمسكون بدفة القرار في حكومة الاحتلال؛ يرى أنه حان الوقت لتبني "رؤية جديدة" تتمثل في "الاقتصاد مقابل الأمن لخلق الاستقرار على جانبي الحدود"، عادًّا الخطة مزيجًا من الاستثمار الدولي، والتعاون الإسرائيلي الفلسطيني والمصري، والتزام حركة حماس بالهدوء، بهدف تغيير حياة سكان غزة.
ويقر لابيد بأن سياسة (إسرائيل) منذ انسحابها من غزة عام 2005، التي تضمنت قيودًا على الحركة والتجارة؛ لم تكن فعالة في منع الهجمات من غزة.
وتشمل المرحلة الأولى من خطة لابيد إصلاح شبكات الكهرباء والصحة والنقل في غزة، وستحتفظ (إسرائيل) بالسيطرة الكاملة على إمدادات المياه والكهرباء لغزة، لكن السلطة الفلسطينية ستستأنف سيطرتها على القطاع ومعابره الحدودية.
وتشمل المرحلة الثانية، التي تلي مدة هدوء غير محددة، مشاريع البنية التحتية الكبرى، ومن ذلك فتح ميناء بحري، وربط القطاع بالضفة الغربية، وتشجيع الاستثمار الدولي في قطاع غزة.
وفي المقابل يجمع الفلسطينيون على رفض الخطة وأي خطط مشابهة، إذ يعدونها محاولة للالتفاف على جوهر الصراع الفلسطيني العربي، وتنكرًا للحقوق الفلسطينية، وتعكس عجز (إسرائيل) وفشلها في التعامل مع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.
المقاومة الفلسطينية أكدت أنها لن تسمح للاحتلال أو لأي جهة بتمرير أي مخططات لا تقبلها، وأن أيًّا منها سيفشل كما فشلت سابقًا الكثير من المخططات المماثلة، ومنها “صفقة القرن” وما تبعها من إغراءات اقتصادية، إلى جانب فشل عملية التطبيع مع الدول العربية، التي كانت بالأساس تستهدف المقاومة مقابل إنعاش الاقتصاد المتبادل لبعض الدول، واستفادة الاحتلال من ذلك.
إن الخطة تأتي استمرارًا لخطط سابقة ومبادرات من أجل الإطاحة بجوهر الصراع صراعًا سياسيًّا بالدرجة الأولى، واستبدال جملة من المشاريع الاقتصادية لمعالجة الأزمات الاقتصادية المتفاقمة بالحل السياسي.
وفي الوقت الذي نرى فيه استحالة تطبيق الخطة المرفوضة فلسطينيًّا جملة وتفصيلًا ستواصل دولة الاحتلال سياسة العصا والجزرة في التعامل مع قطاع غزة، بدليل أنها اتبعت أخيرًا سلسلة من التسهيلات الاقتصادية على المعابر، ليس منة منها بل استجابة لضغوط دولية، وفي الوقت ذاته تواصل الرد بقوة على أي أعمال للمقاومة، حتى لو كانت مجرد بالونات حارقة.
ولعل ما يثير التساؤل هو طرح الخطة بعد أيام من لقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ووزير الحرب الإسرائيلي بيني جانتس في 29 أغسطس الماضي، بمدينة رام الله في الضفة الغربية، أول مرة منذ أعوام، بسبب القطيعة بين الجانبين.
وقد أبلغ جانتس عباس بأن حكومته مستعدة لسلسلة من الإجراءات التي من شأنها تعزيز اقتصاد السلطة الفلسطينية، بعيدًا عن أي حلول سياسية.
إننا نرى أن خطة لابيد تحمل بذور فشلها، ولا يمكن أن تغري الفلسطينيين الذين يتطلعون إلى الحرية والعيش بكرامة في دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وستقابل برفض كبير رغم أن الحصار على قطاع غزة خلق كارثة إنسانية، حيث ارتفعت نسبة البطالة إلى ما يقرب من 60%، في حين قفزت نسبة الفقر من 40% إلى 56%، وفقًا لإحصائيات الأمم المتحدة، أيضًا نجم عنه تهالك البنية التحتية المتهالكة، وأزمتا مياه وكهرباء مستمرتان.
إن طرح هذه الخطة بعد معركة سيف القدس يدل على مدى التراجع الكبير الذي تشهده (إسرائيل) في الآونة الأخيرة على المستوى الأمني، الذي وصفه رئيس الحكومة بأنه يعاني ترهلًا كبيرًا، ويأتي مع انعدام ثقة المجتمع الإسرائيلي بقدرة الدولة على حسم أي جولة قتال جديدة، إذ أصبح المفكرون في الكيان يضعون كثيرًا من الشكوك على مستقبل وجوده علنًا، ويؤكدون أن دولة الكيان مهزوزة من الداخل بفعل التفكك والانقسام الاجتماعي والديني والإثني.
ولعل طرح هذه الخطة جاء استجابة لرغبة واشنطن ومعها القوى في الإسراع في إعلان عزمها على تقديم الدعم للفلسطينيين بعد معركة سيف القدس، في محاولة منهم لقطع الطريق أمام صعود مستوى التأييد الشعبي لحركة حماس، الأمر الذي فسر زيارة وزير الحرب جانتس للمقاطعة في رام الله بعد تجاهل طويل.
إن المطلوب من الفلسطينيين لمواجهة الخطط الاقتصادية الإسرائيلية هو التحرك سياسيًّا ودبلوماسيًّا من أجل إيجاد جبهات عربية وإقليمية ودولية، للضغط على (إسرائيل) لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية، كما أن هناك حاجة ماسة لإستراتيجية وطنية جامعة تشمل كل أنواع العمل المقاوم وتنهي الانقسام، وتتخلى فيها السلطة عن الاستمرار في نهج التسوية وتخرج من نفق أوسلو المظلم، فهل نحن فاعلون؟