لا أحد يشك في أن المقاومة الفلسطينية قد نجحت في تحقيق معادلة وطنية جديدة خلال معركة سيف القدس تربط بين غزة والقدس. وهو ما شكل بداية لاستراتيجية جديدة في مشروع المقاومة، تعتمد على ربط الفعل المقاوم بالثوابت الوطنية. وهو ما يمنحها دعمًا شعبيًّا وقدرة على تحمل تكلفة أي معركة ضد الاحتلال تكون مظلتها عناوين الثوابت الوطنية، كالقدس والأسرى واللاجئين.
ولعل كلمة أبو عبيدة "الناطق باسم كتاب القسام" مساء السبت 11 سبتمبر 2021م قد فتحت خطًا جديدًا بين قاعدة المقاومة في قطاع غزة وأحد أهم خزانات المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية "جنين". فجنين لم تبدأ قصتها في المعركة الخالدة بين 1-11 أبريل 2002م، ولم تنتهِ بعملية "نفق الحرية" التي كان أبطالها ستة من الأسرى -كلهم من جنين- قد حرروا أنفسهم عبر نفق من سجن "جلبوع" الأكثر تحصينًا لدى مصلحة السجون الإسرائيلية.
فلا تزال جنين ترتبط بالشهيد عز الدين القسام، بل لا يكاد يذكرها أحد إلاّ ويقول "جنين القسام"، فهي وإن كانت تبتعد عن مركز الضفة الغربية، إلاّ أنها الأقرب للتماس مع التجمعات السكانية الإسرائيلية، وهذا ما قد يمنحها أفضلية نضالية.
من الواضح أن تصريح أبو عبيدة الذي قال فيه إن "مخيم جنين وثواره ليسوا وحدهم، ولن نسمح للعدو بالتغول عليهم وسنقوم بواجبنا الديني والوطني تجاههم"، يعكس جهوزية المقاومة لتسخير قوتها العسكرية للدفاع عن جنين في حال أقدم العدو على اجتياحها. وهي رسالة ردع يدركها العدو جيدًا، فهو غير مستعد لتكرار خطئه الاستخباري قبيل معركة سيف القدس، عندما لم يقرأ تهديد المقاومة جيدًا. تلك الرسالة التي تحمل توقيع 11 يومًا من القصف المتواصل للمنشآت والمرافق الإسرائيلية بأسلحة لم يكن يتوقعها، لا على مستوى دقة الإصابة ولا المسافات التي يمكن أن تصلها، ولا حتى نوعيتها البرية والبحرية والجوية.
ولعل ذلك يأتي في سياق تقديرات بأن جيش الاحتلال الإسرائيلي قد يتعرض لحياة الأسيرين اللذين لا يزالان طليقين. فجيش الاحتلال منذ عدة سنوات وضمن استراتيجة "جز العشب" التي تشمل قتل المقاومين في الضفة بدلًا من اعتقالهم. وبعد تمكنه من اعتقال الأسرى الأربعة، وشعوره بشيء من النشوة، ومن أجل كي الوعي الفلسطيني، فإنه قد يعمد إلى المساس بحياة من تبقى من أبطال "نفق الحرية".
إن مبادرة المقاومة بربط نجاح أي صفقة لتبادل الأسرى مع الاحتلال بحرية هؤلاء الستة، تمثل رفعًا للسعر وزيادة في الثمن. ومما لا شك فيه أن الحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة "نفتالي بينيت" هي أضعف من أن تكون قادرة على تحمل عبء تحرير الأسرى، حتى وإن رغب بعض أقطابها. فحالة التناقض السياسي بين مكونات الائتلاف الحكومي بالإضافة إلى النزعة اليمينية لغالبيتها تجعل من الصعب الذهاب إلى صفقة تضطرها لكسر حاجز الثقة برواية الجيش بموت جنودها في قطاع غزة خلال معركة العصف المأكول 2014، أو بعددهم أو حتى بطبيعة ما لدى المقاومة من جنود أحياء أو أموات.
ولكن المنطق السياسي دائمًا يتقبل فكرة أن لا أحد يقدّم "تنازلات مؤلمة" طواعية، وأن الرأي العام في (إسرائيل) سيرغم أي حكومة -مهما كانت متطرفة- بالرضوخ لشروط المقاومة عندما يتحرك وسيط قادر على إقناع الطرفين بتقديم ضمانات تؤكد جديته. وهذا ما حدث خلال "صفقة وفاء الأحرار" الأولى؛ عندما استطاع الوسيط الألماني الحصول على مقطع فيديو قصير يثبت أن الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط بصحة جيدة، في مقابل إطلاق 19 أسيرة فلسطينية. وهذا ما يحدث في كل صفقات التبادل، التي لا تتم عادة دفعة واحدة، بل لا بد أن يتخللها أثمان جزئية تمهد لدفع الثمن الكامل للتبادل، الذي يكون عادة مؤلمًا لأحد الطرفين.
إن إعلان الناطق العسكري من قطاع غزة، استعداد المقاومة الفلسطينية لتسخير كل قوتها للدفاع عن الثوابت الفلسطينية، يعكس ثقتها بالقول إن "ما بعد معركة سيف القدس ليس كما قبلها"، وهو بداية لحقبة جديدة من الثورة الفلسطينية التي توحد جبهات المقاومة بما يتجاوز قدرة العدو على إدارة أيام قتالية أو حتى معارك مفتوحة على عدة جبهات لن تحقق له الأمن الهش ولن تحفظ له أسطورة الردع.