اليوم الوطني الفلسطيني يتجسد في 12 أيلول حيث ذكرى تحرير أول أرض فلسطينية، الذي تحقق في عام 2005م، إذ في ذكرى أوسلو الـ12 كان اندحار الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة من جانب واحد تحت مسمى (خطة الانفصال)، ومثل مشهد تخريب المستوطنات وتفكيكها وهذا الانكفاء والهزيمة المُذلة نتيجة لانتفاضة الأقصى تجسيدًا لقوله (تعالى): "هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ" [الحشر: 2].
وحلّ مفهوم "المجتمع المذعور" داخل تجمعات الاستيطان في قطاع غزة، وفي ذلك قال (موفاز): "إن العمليات المسلحة التي عرفها الجيش الإٍسرائيلي في قطاع غزة لا تشبه أي حرب خاضتها (إسرائيل) قبل ذلك".
مثل الاندحار من قطاع غزة بارقة أمل فلسطيني في إمكانية الاندحار الصهيوني من أراضٍ فلسطينية إضافية، كما مثّل هذا امتدادًا للاندحار الصهيوني من جنوب لبنان في أيار2000م، الذي أضاء حينها طريقًا جديدًا للفلسطينيين مع فشل كامب ديفيد وانكفاء خيار المفاوضات وسقوط أوسلو وحصار عرفات بانطلاق انتفاضة الأقصى، كما رسخ الانسحاب منهجًا فلسطينيًّا جديدًا فعالًا ومجديًا، وهو المقاومة بكل أشكالها، وعلى رأسها العمل العسكري، وأثبت هذا الاندحار الصهيوني توافر خيارات أمام الشعب الفلسطيني يمكن الاتكاء عليها، ومنحها فرصة إضافية لتحرير أجزاء إضافية من أرض فلسطين.
كما منح هذا الاندحار أول مرة أرضًا فلسطينية خالصة للشعب الفلسطيني، يمكن أن يطلق منها مشروعه الذي يريد بعيدًا عن غول الاستيطان وسيطرة الجيش الصهيوني والالتزامات بالتفاهمات والاتفاقات الموقعة، وكان من الممكن أن يمثل الاندحار من قطاع غزة تحولًا فلسطينيًّا داخليًّا عن النظرة الفلسطينية الضيقة إلى صياغة رؤية فلسطينية موحدة على أساس من إجماع وطني، بعد توافر قطعة أرض فلسطينية محررة يمكن الانطلاق منها برؤية وطنية جامعة وشاملة، ولكن -يا للأسف الشديد- تكرس الانقسام الفلسطيني، وربما هذا لتباين فلسفة التحرير ومناهج العمل بين فصائل العمل الوطني الفلسطيني.
لقد جسدت محطة الاندحار خطًّا بيانية متصاعدًا لحركة شعب خرج كالعنقاء بعد نكسة 67، وتشتت في المنافي بحثًا عن فلسطين، فسكن إلى جوارها ولم تسعفه المرحلة العربية، ولا أسلوبه القيادي المبعثر في مواصلة الإمساك بزمام مشروعه التحرري، فدفع الثمن من دماء شعبه عبر المجازر ومزيد من الغربة في صحراء العرب، وقد مثل الاندحار من قطاع غزة بوابة لحركة حماس حركةَ مقاومة للدخول في انتخابات عام 2006م، وما مثلته الانتخابات ونتائجها بعد ذلك من علامة فارقة في التاريخ الفلسطيني المعاصر.
وخاضت قيادة الشعب الفلسطيني في حينه قبل اليوم الوطني تجربة العلاقة مع المحتل عبر اتفاقات دولية، فدخل في نفق السراب، وعادت الراية للشعب عبر انتفاضة ملحمية أثمرت تحريرًا لأول أرض فلسطينية، لتشكل بارقة أمل في الخيار البديل، مع تنكر الاحتلال للاتفاقات، وما يصاحب ذلك من وهن عربي ورعاية أمريكية للربيبة (إسرائيل). وما زالت غزة وليدة مخاض الاندحار الأول في محطاته المتعاقبة تمثل أيقونة الحلم الفلسطيني بالتحرير والعودة، عبر ملاحم ما زالت تسطرها يوميًّا في اشتباك شعبي مع الاحتلال عند جميع نقاط الاشتباك البطولي، وما زالت بمساحتها الضيقة رغم الحرب والحصار والمقاطعة تمثل مشروع نواة ينبغي أن تتزايد وتنمو من أجل تثبيت مشروع التحرير الذي تسنده نواة الدولة الفلسطينية المفروضة رغمًا عن الاحتلال وبرامجه.
وعلى الجانب الآخر يمثل ذلك حالة تحدٍّ فلسطيني ذاتي في النجاح في تقديم نموذج مشروع كيان ناجح قادر على الصمود والثبات، وكذلك قادر على إرهاق المحتل من أجل زيادة الرقعة الجغرافية لهذا الكيان الذي ولد في عملية قيصرية تحت عين الاحتلال وسمعه، تمامًا كما نشأ موسى (عليه السلام) في بيت فرعون (لتصنع على عيني)، وغزة في اليوم الوطني المتمثل في ذكرى الاندحار عن أول أرض فلسطينية هي موسى هذا الزمن، التي يصنعها الله على عينه لتمثل ولادتها في يوم الاندحار العظيم إيذانًا بفجر التحرير والعودة.