فلسطين أون لاين

من سِيَر الفارين إلى الحرية..

"الصفطاوي" يروي حكاية "الهرب الكبير" من سجن "غزة المركزي"

...
غزة/ نور الدين صالح:

"الحرية أغلى ما يملك الإنسان، الحرية لا توهب إنما تنتزع انتزاعًا"، هذه الطريق التي رسمها المُحرر عماد الدين الصفطاوي بالدم، حينما شقّ الدرب ذاته حاملًا روحه على كفه متسلحًا بالإيمان تحت شعار "الحرية مقابل الروح".

دبّت روح الحماسة والجهاد في قلب "الصفطاوي" في العقد الخامس من عمره، مذ أن كان فتيا، فراح ينغّص على قوات الاحتلال الجاثمين على أرض قطاع غزة آنذاك، عبر أعمال المقاومة البدائية، فما كان منها إلا أن زجّته في سجن "غزة المركزي" المعروف باسم "السرايا" حاليًا، عام 1980م، فأمضى 10 شهور.

القلب الذي ينبض بالمقاومة لا يتوقف، عاد "الصفطاوي" المنحدرة أصوله لقطاع غزة إلى الطريق ذاته ضمن مجموعة من ستة أفراد، فقتلوا ثلاثة إسرائيليين وأصابوا آخر عام 1986، فأعادت قوات الاحتلال اعتقاله مجددًا في سجن "غزة المركزي".

في اللحظات الأولى التي وطئت أقدامه ومجموعته غرفة السجن الإسرائيلي الذي لم يتجاوز عرضها الثلاثة أمتار، وتحتضن بين جدرانها 26 أسيرًا آخرين، انشغلت أذهانهم بالتفكير في كيفية التخلص من تلك القيود والتحرر من ظلم السجان.

كان "العقل المدبر" هو الشهيد مصباح الصوري، الذي انهمك بالتخطيط لتلك المهمة الشاقة، فأخذ وقتًا ليس طويلًا، ثم عرض الفكرة على بقية المجموعة من بينهم "الصفطاوي" الذي لم يمضِ على أسره سوى ستة أشهر، "لاقت الفكرة ترحيبًا وقبولًا من الجميع".

"التفكير بالهرب كان أمرًا منطقيًا بالنسبة لنا، فالاحتلال أصدر حكمًا علينا بالسجن المؤبد"، يروي "الصفطاوي" تجربته مع الفرار من سجن غزة المركزي في عملية عرفت إعلاميًّا باسم "الهرب الكبير"، وضمن سلسلة من سير الفارين إلى الحرية التي تنشرها صحيفة فلسطين.

اكتملت الموافقات الستة، ثم أخذت دوامة من التساؤلات تداهم ذاكرتهم، فالمكان مُحصن أمنيًا وجنود الاحتلال ينتشرون في كل أرجاء الأرض المُحاطة بأربعة جدران يتجاوز طولها الأربعة أمتار، يعلوها سياج شائك يأخذ ارتفاعًا لأربعة أمتار أخرى في نهايته "سياج مُندمج مع شفرات جارحة".

انتهت النقاشات وكانت خلاصة المخطط تتمحور حول هرب المجموعة عبر نافذة دورة المياه في السجن، حسبما يقصّ "الصفطاوي"، فالأداة المستخدمة هي "شفرة مستطيلة" تُستخدم في قص الحديد تم تهريبها خلال زيارة عائلة أحد الأسرى الستة.

السرية التامة كانت أول نهج اتخذته المجموعة حتى عن الأسرى الآخرين في السجن ذاته، فحين يجن الليل وتتجاوز عقارب الساعة العاشرة مساءً، وتطفئ إدارة السجن الإنارة عن جميع غرف الأسرى، يبدأ عمل المجموعة.

بصمت وهدوء يتسلل أحد عناصرها نحو دورة المياه، مصطحبًا معه "الشفرة" ويبدأ بقص أجزاء صغيرة من قضبان الشباك، وهكذا يتناوب واحد تلو الآخر يوميًا، فضلا عن استغلالهم وقت خروج الأسرى للفورة (ساحة السجن) مرتين يوميًا صباحًا ومساءً، والكلام للصفطاوي.

استمر العمل على مدار قرابة شهر، وسط سرية وتكتيم كامل، إلى أن حانت لحظة الصفر-أي تنفيذ ذاك المخطط، فبينما أخذ الأسرى يتسللون من الشباك واحدًا تلو الآخر، كانت هناك "نقطة مراقبة عسكرية" بداخلها جندي إسرائيلي تبعد أقل من ثمانية أمتار، لكن معيّة الله كانت حاضرة؛ فقد غلب النُعاس على ذاك الجندي.

لحظات الخروج

في الثاني عشر من شهر مايو 1987م، وهي إحدى ليالي رمضان، وعندما بدأ نسيم الفجر يهل، تجهّز الأسرى وارتدوا لباسًا وأحذية سوداء كانوا قد خبؤوها منذ فصل الشتاء، وراحوا ينفذون مخطط الفرار.

يقول الصفطاوي: "رغم صعوبة الظروف التي كنا نمر بها فإننا كنا نشعر بطمأنينة عالية ونبتسم".

قفز الستة أسرى تباعًا من الطابق الثاني، إلى سطح الطابق الأول الملاصق، في عملية أشبه
بـ "الإنزال" في أثناء التدريب العسكري للمقاومة. اعترضهم سياج آخر على ذاك السطح، لكنه لم يكن حائلًا أمام عزيمة الرجال وصلابتهم، فقصوا منه "فتحة صغيرة" قفزوا من خلالها على الأرض، ثم أخذوا يزحفون على بطونهم باتجاه شجرة عالية قريبة من بوابة الخروج، متجاوزين ستة جنود إسرائيليين كانوا جالسين في المنطقة ذاتها، تسلقوا الشجرة ومنها قفزوا إلى السور النهائي الذي تعلوه أسلاك شائكة فيها "نتوءات حادة".

الموقف الأقسى بالنسبة للمحرر الصفطاوي، كما يسرده، حينما علق قميصه في الأسلاك الشائكة في اللحظات الأخيرة؛ أي عندما أصبح جسده خارج أسوار السجن، ظلّ بضع دقائق وهو يشد ثيابه كأنما يقتلعها من أنياب ذئب، إلى أن تمكن من ذلك بعد مرور دقائق مرّت ثقيلة.

بضع دقائق مرّت حتى قفز آخر أسير خارج أسوار السجن، فتحقق لهم حلم الحرية الذي انتزعوه من بين أنياب الاحتلال، وراحوا مُسرعين نحو منزل عائلة الصفطاوي القريب من منطقة السجن في تلك الفترة.

مُطاردة 9 سنوات

هنا انطوت صفحة انتزاع الحرية، ليفتح الصفطاوي صفحة أخرى عنوانها مُطاردة الاحتلال لهم، بعدما جنّ جنونه من تلك الحادثة، فيحكي: "توجهت إلى منزل عائلتي وسلّمت على عائلتي ثم توجهت نحو منطقة تقع على الحدود الشرقية لقطاع غزة حيث الأراضي المهجورة".

وبعد انقضاء ساعة من عملية الفرار، سادت حالة من الذعر والهلع وسط أركان الجيش الإسرائيلي من هول العملية، فأغلق قطاع غزة وشن حملات اعتقال مسعورة بين الشبان، بحثًا عنا.

ويضيف الصفطاوي: "أكثر من شهر ونحن مطاردون في غزة، وقد عدنا حينها إلى العمل العسكري ومقاومة الاحتلال".

لم تفلح محاولات الاحتلال بإعادة اعتقاله حينها، وقد فرضت عليه قسوة الظروف السفر خارج قطاع غزة، ليبقى مطاردًا من دولة عربية إلى أخرى على مدار أكثر من ثماني سنوات.

وفي عام 1990 وفي أثناء وجوده في سوريا التي كانت واحدة من الدول التي تنقل إليها في أثناء المطاردة، تزوج من امرأة فلسطينية مهاجرة إلى هناك، ثم عاد إلى قطاع غزة عام 1996 بعد حصوله على عضوية في المجلس الوطني التابع لمنظمة التحرير.

وكان الصفطاوي قد أنجب خمسة من الأطفال، حتى دخل عام 2000، فأراد السفر إلى دبي لمهمة خاصة، وفي أثناء عودته اعتقلته سلطات الاحتلال وزوجته في سجونها وحكمت عليه بالسجن 18 عامًا، إلى أن أُفرِج عنه عام 2018.

فهل انتهت الحكاية؟! الجواب: لا؛ فمنذ عودته من السجن كان أبناؤه الثلاثة خارج قطاع غزة لاستكمال علمهم وعملهم، ولم يحتضنهم -باستثناء ابنته الوحيدة-حتى كتابة هذا التقرير.