لا تنحصر قوة الردع أحد أهم أركان العقيدة العسكرية الإسرائيلية في الحد من المواجهات المسلحة، كما لم تعد ساحة غزة المحاصرة والضفة المنهكة هما من يدللان على تآكلها فحسب، بل أثبتت السجون رغم قلة امكانياتها أنها قادرة أيضاً على تبديد قوة الردع المهترئة، وهذا ما أكدته حادثة تحرر الأسرى الستة من سجن جلبوع عبر نفق الحرية.
عند دراسة واقع السجون نستنتج أن إدارة مصلحة السجون "الشاباس" هي الذراع التنفيذي لجهاز الأمن العام "الشاباك" فيما يتعلق بالأسرى وهم يقبعون خلف الأسوار، فمن الخطأ بمكان الإعتقاد بأن "الشاباك" ينتهي دوره بمجرد إنتهاء الأسير من فترة التحقيق ونقله للسجن، في الواقع يضم "الشاباك" قسماً خاصاً بمتابعة الأسرى، كما يوجد في "الشاباس" وتحديداً في فرع الاستخبارات داخل كل سجن ما يسمى "منسق الشاباك" ايضاً، والذي يقع على عاتقه مهمة إدارة التنسيق والمتابعة فيما يتعلق بشؤون الأسرى من تحركاتهم وتنقلاتهم وأخر مستجداتهم على جميع الأصعدة بين الجهازين، وبالتالي لا يقتصر التعاون بينهما على العزل الانفرادي للدواعي الأمنية فقط.
يقودنا ذلك إلى أن القوانين والأنظمة التي تفرضها إدارة السجون لا تأتي عبثاً، أو ردة فعل على حدث بعينه، بل هي نتاج وخلاصة لمجموعة من الدراسات والبحوث العلمية التي تجريها الطواقم المتخصصة على الأسرى، والتي تهدف بشكلٍ أساس إلى تحويل الأسير ونقله من دوره الوطني والمقاوم والتثقيفي إلى الدور الوظيفي الذي يخدم مصلحة السجون ضمن منظومة التحكم والسيطرة على التفكير والسلوك، وبالتالي تسهل عملية تحييده وتطويعه وإعادة تشكيله بالإضافة إلى صهر وعيه حتى يصبح شخصاً خاملاً ثقيلاً على تنظيمه ومجتمعه لا فائدة فيه بعد ان كان الملهم والأنموذج، ولعل هذا ما قصده الأسير وليد دقة في عنوان كتابه " صهر الوعي وإعادة تعريف التعذيب".
ساهمت عملية تحرر الأسرى من سجن جلبوع، أو إن صح تسميتها "عملية سهل بيسان" في انكشاف عورة المنظومة الامنية وتصدعات قوة الردع، فالأهم بالنسبة للكيان هي طريقة التحرر لا المتحررين انفسهم وإن كان ذلك مهماً ايضا للخطورة التي يشكلونها حسب اعتقاد الاحتلال.
إدارة السجون والتي تقدر ميزانيتها بـ 3.77 مليار شيكل سنوياً كانت الخاصرة الضعيفة والنقطة المركزية في الضربة لتواجد المتحررين داخل أسوار السجن، حيث لم يعتاد هذا الجهاز التنفيذي على تلقي الضربات بهذا الحجم سيما من الأسرى الأمنيين وما رافقها من صدى وتفاعل بكافة أشكاله ومستوياته.
على الرغم من الطبيعة البنيوية للسجون، والاحتياطات الأمنية من تقنيات حديثة علنية مثل كاميرات المراقبة المنتشرة في ارجاء السجن ومخفية كأجهزة التنصت والكاميرات المزروعة في بعض السجون، وعناصر بشرية مدربة ومعدة فهي بإعداد ليست بالقليلة، بالإضافة إلى الاجراءت اليومية التي تتبعها من تفتيش وفحص يومي لغرف الأسرى اكثر من مرة، ونقلهم عنوة بين السجون والأقسام، إلا أن ستة أسرى عُزل إستطاعوا إختراق جميع المنظومات البنيوية والتقنية بسرية تامة، ونجحوا بالتحرر عبر نفق تم حفره في مدة تجاوزت العام أسفل السجن دون أدنى انتباه من عناصر الشرطة المتيقظة والمتجولة على مدار الساعة، وبالتالي لم يردعهم ذلك من تنفيذ مخططهم.
المنظومة الأمنية بصورتها العامة المكونة من الشرطة والجيش و"الشاباك" كان لها حصة من الضربة أيضاً، وخصوصاً بعد أن نجح الأسرى الخروج من السجن، فمع كل يوم يمر يزداد الفشل الاستخباراتي والعملياتي وضحاً في تحديد مكان الشبان الستة أولاً سيما أن مؤشرات الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تشير إلى أنهم لم يتجاوزوا حدود فلسطين المحتلة، وبالرغم من نشر أكثر من 200 حاجز للشرطة ومشاركة قوات الجيش والتي تم تعزيزها بقرابة بـ 3 كتائب قتالية و 7 سرايا، أي ما يقارب من 5000 جندي.
من مظاهر الفشل في التعامل مع قصة المُتحررين أيضًا كان في العجز في الضبط من الناحية الإعلامية والحد من التفاعل الشعبي خصوصًا من فلسطينيي الداخل المحتل الذي نُظر إليه على أنه عمل بطولي ووطني، و الاخفاق في توحيد الرواية الاسرائيلية الرسمية التي جرمت العمل وقللت من أهميته، حيث عملت وسائل التواصل الاجتماعي على اظاهر الحقائق ونشر الوعي الامني بين الناس فيما يتعلق بضرورة حذف تسجيلات كاميرات المراقبة وتضليل الشرطة عبر البلاغات الكاذبة التي تشير الى وجود الأسرى من الشمال الى الجنوب.
إذاً فشلت المنظومة الأمنية الإسرائيلية جمعاء في جوانب عدة، أولها فشلت في كي صهر وعي الأسير الفلسطيني و حرفه عن سكة المقاومة، أما المنظومة الأمنية التقليدية فتجلى فشلها في حالة التخبط والإعتراف بعدم القدرة على التوصل لطرف خيط واحد يقودها إلى الأسرى المُتحررين رغم كل وسائل وتقنيات التعقب والتتبع والبحث، كما أن هذه الحادثة كشفت مدى الخوف والهاجس في العقل الجمعي الاسرائيلي الذي يخشى موجة من العمليات قد ينفذها الأسرى المُتحررون، وأثبتت أن قوة الردع الإسرائيلية سهلة التصدع والانهيار، فلا تحتاج إلى جيوش و روؤس نووية بل إلى إرادة وتصميم.