بعد خمسين سنة بالتمام والكمال جاءت ذكرى الخامس من حزيران هذا العام، فلم يكن جديدًا يضاف في سجل تاريخ العرب في حقبة تلطخت بالهزائم واستمرار التقهقر في كل مضامير المنافسة والسابق الحضاري، بفعل أنظمة تحكمت في شعوبها بالحديد والنار، بعد أن تورّثت حقبة (استعمارية) تشظت فيها الأمة العربية والإسلامية إلى أقطار متشاكسة.
أمة، بقي فيها الخلاف هو الثابت الذي لم يتغير، ولم يزل التوافق المتغير الذي لم يثبت، وإذا ثبت لم يكن إلا في حالات فارقة، ولكنها لم تكن في صالح الأمة ولا حفظ مصالحها..!
وقد وجدنا مثل هذا الاجتماع العربي في محاصرة العراق التي استمرت لأكثر من عقد من الزمان، وما انتهى الحصار حتى انتهى معه العراق، وحصار آخر وجدناه في ليبيا استمر إلى أن استجاب نظامها المخلوع لكل المطالب الأمريكية والبريطانية.. وما سوى ذلك فلم يكن لأنظمة العرب إلا اجتماع تصويري أو صوري.
فعندما نستذكر النكسة الكبرى نذكر معها "لاءات الخرطوم الثلاث" وما تحولت إليه في أطوار ثلاث من "لا" إلى "لعم" ثم "نعم" حتى أصبحت مطالب "الصلح والتفاوض والاعتراف" ركائز المشروع العربي، يوم تبنت قمة بيروت في مطلع الألفية الجديدة مبادرة الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، وأصبح التطبيع الكامل في مقابلة الانسحاب من الحدود الجغرافية التي رسمتها النكسة.
وقد لم يتأخر رد الكيان الصهيوني على هذا التداعي الخطير في الموقف الرسمي العربي المعلن، حين جاء الرد غاية في الاحتقار والسخرية إذ عقب رئيس وزراء الكيان الهالك "أرئيل شارون" بقوله: "إنّ هذه المبادرة لا تساوي الحبر الذي كتبت به".
فالنكسة إذن، وقد طوت خمسين سنة لم تكن فريدة حين توالت النكسات على الأمة، بفعل حكامها وحكوماتها، بل أضحت النكسات وكأنّها السمة الأبرز لهذه الحقبة السوداء في تاريخ أمة كانت عظيمة ولازالت معاني هذه العظمة تعتمل في رحمها.
وقد شهدت لها الأمم بإسهامات حضارية هامة، بل هي الأمة التي أول من دشنت المنهج العلمي التجريبي الذي انتقل معه العالم المعرفي التقني نقلات نوعية مدهشة قبل تعرفة أوروبا مع الفيلسوف "ديكارت" بقرون.
وحين تركت هذه الأمة مشاهد عمرانية في كل مناحي العالم القديم من شرقه إلى غربه، غير أنها اليوم ينهشها الفقر والتخلف، وينخر فيها الفساد والاستبداد، وتترنح في ساح الهزائم المتتالية، ولم تزل تهوي في وادٍ سحيق لم نعلم له نهاية.
نعم، توالت علينا نحن العرب النكسات في كل سنة مرة أو مرتين، غير أن ذكرى لهذه النكسة الكبرى التي أطبقت الخمسين من ذكراها الأليمة قد كان الجديد فيها، أن أنظمة عربية تواطأت لموقف اجماع لها من جديد، فكان هذه المرة محاصرة الشقيقة دولة قطر ومقاطعتها.
السؤال، لماذا قطر؟
ليس إلا أنّها تصدت لمسيرة التجهيل والتضليل العربي عبر شبكة الجزيرة الإعلامية التي قادت الرأي العام العالمي في أكثر من مناسبة، ولازالت تتصدر المواقع الإخبارية العالمية على مستوى العالم العربي كأكثر مشاهدة وأبلغ تأثير؛ لهذا اتهمت بأنها قادت الحراك الشعبي العربي فيما سمي بـ "ثورات الربيع العربي" ضد أنظمتها المستبدة.
وأنّها قد عملت بكل جهد مستطاع لعودة مشروع النهضة العربية؛ فشهدت في واقعها ثورة معرفية علمية عمرانية فاقت المتوقع منها في غضون فترة قياسية؛ لتكون الرابعة عالميًا في التعليم- طبعًا- الأولى عربيًا، والأولى عربيّا في التنمية وفي الصحة، فيما ترصد ستة مليارات سنوياً لمشاريع البحث العلمي، ويبلغ دخل الفرد فيها معدلات قياسية فهي الأولى عالميّا إذ يبلغ (146,000$) سنويًا.
وأنها عملت كذلك بجد لتكون فاعلاً دبلوماسياً مؤثرًا في كل قضايا الاقليم، فكان لها إسهامات كبيرة في إنهاء قضايا ونزاعات قديمة، وقد تدخلت حين جمعت الأطراف المتخاصمة في لبنان، كما كانت لها محاولات جادة في انهاء الانقسام الفلسطيني وكذلك عملت بجد في إنهاء صراعات داخلية عربية.
وأنّها كانت الدولة الوحيدة التي حرصت على إزالة الخلط بين الإرهاب المصطنع وبين المقاومة المشروعة، وكان آخر تصديها لهذا الخلط في مواجهة خطاب الرئيس لأمريكي ترامب في قمة الرياض حين ربط بين حماس والإرهاب، فيما صفق الآخرون أو لاذ بعضهم في صمت القبور.
وأنّها لازالت تعمل في استثمار صناعة الوعي بالانحياز لقضايا الأمة العربية والإسلامية، وتقدمت في هذا المضمار حتى تفوقت على شبكات إخبارية عالمية، ووكالات إعلامية وجدت نفسها متقزمة أمام التميز في صناعة الإعلام.
فكان لهذا التميز الإعلامي أن أعاد الاعتبار للقضية الفلسطينية كقضية العرب المركزية والتي تتمثل فيها المظلومية في أفصح معانيها وأوضح أحوالها.
وبرسم السؤال، هل اتخذ قرار المقاطعة والحصار ضد دولة قطر دون علم أمريكا، أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟
بالتأكيد لا يجوز أن تكون أمريكا غائبة عن هذه الخطوة وهذا القرار، ولن تكون كذلك بعيدة عن تأثيراته ومفاعيله، إلا أنّها ستحرص هذه المرة على قيادة القاطرة من الخلف في سياق تشتيت المراقبين عن رصد الوجهة الأمريكية في هذا الشأن.
لذلك؛ عملت أمريكا على توزيع الأدوار في التعبير عن موقفها من هذا القرار لـ "دول المقاطعة"، بين أقطاب مؤسسات القرار السيادي فيها لأذرعها الثلاث..
وعليه، نجد للبنتاغون موقفا ينطلق من تقدير الرؤية العسكرية، وموقف خاص بوزارة الخارجية ينطلق من تقدير المصالح الخاصة بطبيعة تقدير الدور القطري، في حين نجد موقف المؤسسة الرئاسية أكثر وضوحًا في الوجهة وأكثر تعبيرًا عن حقيقته.
لكن، كيف ستواجه قطر؟
ليس واردا أن تستلم دولة قطر المشروع الوصاية وهي تمتلك منظومة دبلوماسية قوية وفاعلة، وشبكة إعلامية عملاقة، وأن لها قدم صدق في كثير من المواقف ويدا بيضاء في الساحات العربية والإسلامية.
لذلك، ستعمل قطر على استيعاب هذه الموجة وارتداداتها، أولاً بمخاطبة الشعوب وتجييشها لمعارضة هذه الخطوة من خلال إرثها الكبير فيما استثمرته في صناعة الوعي منذ ما يزيد عن عقدين من الزمان.
ثم إنها ستنفتح على أبواب الوساطات وقد تتجاوب معها ببعض الخطوات الظاهرية، إذا ما تعاطت الدول متزعمة المقاطعة بإيجابية مع مساعي الوساطة سواء الكويتية أو أي وساطات تركية وغيرها من الوساطات الأخرى.
وإلا فإنّها ستجد البدائل في مواجهة تبعات هذا القرار الذي لا يراعي قيم حسن الجوار ومبادئ العمل العربي المشترك.
لكن، الحقيقة الثابتة المستقرة، أن قطر لن تتخلى مطلقًا عن ثوابت مكوناتها وهويتها، ولن تتجاوب مع دعاوى التنكر والكفر بعدالة القضية الفلسطينية، بل ستصبح أكثر حرصًا على تأكيد معاني إيمانها بالقضية الفلسطينية وما تستوجبه من نصرة ومساندة في كل المحافل، وبكل جهد مستطاع..