حفروا النفق كي يخرجوا من ظلمات السجن إلى نور الحرية، وهم يعرفون أن للحرية الحمراء بابٌ بكل يدٍ مضرجةٍ يُدقُّ، لذلك دقّوا أبواب الحرية بما توفر لديهم من إمكانات، وانتزعوا حريتهم عنوة، وهذا هو الفرق بين متسول للحرية من خلال التنازلات والاتفاقيات، وبين منتزع للحرية بالمثابرة والتضحيات.
وعلى مر التاريخ خلف الأسوار، لم يحصل الأسرى الفلسطينيون على حريتهم إلا بأربع طرق:
الأولى كانت عن طريق الرحمة، والعفو الذي يمنحه محتل الأرض لبعض الأسرى الذين تبقى لمحكوميتهم عدة أيام أو أسابيع، ولم توجه لهم تهم الإخلال بالأمن بجلاء، ويأتي العفو تكريماً للقاء المخاتير والوجهاء مع الحاكم العسكري، شرط تعهد الأسير بالتوبة، ومنطلق الرحمة هنا لغاية سياسية وإعلامية، وقد وفرت هذه الحالة فرصة للمخابرات الإسرائيلية لإطلاق سراح بعض الحالات المشبوهة أمنياً.
الثانية كانت عن طريق التفاوض، وتقديم المقابل السياسي، فلا إطلاق سراح للأسرى دون ثمن، فبعد توقيع اتفاقية القاهرة في 4/5/1994 تحرر آلاف الأسرى، من ذوي الأحكام الخفيفة، وممن تبقى لنهاية محكوميتهم خمس سنوات وما دون، وفي مراحل لاحقة من التفاوض تحرر عدد من ذوي الأحكام العالية، شرط ألا يكون قد شارك في عمليات تسببت بقتل جنود في جيش الاحتلال الإسرائيلي أو جرحهم، وبهذه الطريقة التفاوضية تحكم العدو بمفاصل حياة الأسرى، وصار يمنح الحرية لمن يؤيد أوسلو، ومن يوقع وثيقة عدم العودة للعمل العسكري، ورغم كل هذه التنازلات، رفض العدو إطلاق سراح عشرات الأسرى من سكان فلسطين 48 والقدس، بحجة أنهم مواطنو دولة (إسرائيل)، ولا علاقة لهم بفلسطين، وما زال أمثال كريم يونس ووليد دقة وماهر يونس يصارعون ليالي السجن لأكثر من 39 عاماً.
الثالثة كانت عن طريق صفقة تبادل أسرى إسرائيليين بأسرى فلسطينيين، وبغض النظر عن عدد الأسرى المفرج عنهم في كل صفقة تمت، فقد انحصر دور الأسرى في هذه الحالة على الانتظار، وتمني الحرية، والثقة بقدرات المقاومة على تحريرهم مهما طال الزمان، ورغم نجاح صفقات التبادل، فإن تحفظ العدو وشروطه، حالت دون إطلاق سراح بعض الأسماء التي وصفها العدو بالخطِرة، أو المحناة بالدم الإسرائيلي، ومنهم الأسير عبد الله البرغوثي.
والرابعة كانت عن طريق شق الصخر، وانتزاع الحرية بالأظفار، وهي تعكس عدم الرغبة في الاتكال على صفقة تبادل أسرى، ما دامت قد توفرت الفرصة، وفي هذه الطريقة تحقيق للذات، وفرض للإرادة، وفيها تحدٍ، وعدم انتظارٍ وترقبٍ، فالفعل والمبادرة من سمات الثوار، وأظن أن طريق الحرية هذه، هي الأرقى والأجدر بالمحاكاة، وهي منطلق حديثي عن الأسباب التي فرضت على الأسير أن يحفر الصخر بأظفاره أو بملعقة، كي يصنع نفقاً يفضي إلى الحرية:
1ـ سنوات الحكم الطويلة التي قضت بها المحاكم الإسرائيلية الفاشية، فلم يحدث على مر التاريخ أن صدرت أحكام بالمؤبد وبالسجن عشرات السنين على عشرات آلاف الأسرى إلا مع هذا العدو، الذي تعمد معاقبة كل من فكر بمقاومته بشكل رادع للآخرين.
2ـ حياة الأسر بحد ذاتها، حيث يظل الإنسان معلقاً بسقف الغرفة على مدار الساعة، ينتظر موعد الصباح لعد للأسرى، وموعد وجبة الطعام، وموعد الفسحة، وموعد الدق على الشبابيك، وموعد التفتيش اليومي، وموعد إغلاق السجن، وهكذا، ليصير التفكير بالحرية والتخلص من الأسر هو الأصل، ويكون الرضا بالسجن والقبول بعتمته هو الاستثناء.
3ـ المشاعر الوطنية العامة، حيث تم تجاهل قضية الشعب الفلسطيني بشكل مدروس، وقد شاركت سياسة التنسيق والتعاون الأمني في تثبيت الاحتلال بدل أن تطرده، إن ضمان أمن واستقرار المحتلين ليعتبر المحرض الأكبر للأسرى كي يدقوا الجدران.
4ـ إدراك الأسرى الفلسطينيين أن قضيتهم سياسية، وليست أمنية، كما يحاول العدو أن يوحي بذلك، وهذا منطلق التفكير بأن الخلاص من الأسر ليس حالة فردية، بمقدار ما هو خلاص وطني عام، ومن هنا يبدأ التفكير بالتحدي، وكسر إرادة العدو.
5ـ تجاهل قضية الأسرى على المستوى السياسي، فمنذ توقفت المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية عام 2014، وحتى يومنا هذا، لم تحرك السلطة ساكناً بشأن تطبيق (إسرائيل) للاتفاق الموقع بشأن إطلاق سراح الأسرى، ولا سيما أولئك الذين تجاوزت مدة أسرهم ثلاثين عاماً، وهم أسرى ما قبل اتفاقية أوسلو، وقد مضى على بعضهم في الأسر أكثر من 39 عاماً، وهؤلاء يشكلون مدرسة التحريض الساعي للتخلص من الأسر.
5ـ الخذلان الذي تعرض له الأسرى من قيادة السلطة، حيث قام الأسرى بأكثر من إضراب مفتوح عن الطعام، بهدف تحسين شروط حياتهم، ولم يتلقوا الدعم اللائق، ولعل ما اشتكى منه الأسير مروان البرغوثي خير شاهد على تعمد السلطة إفشال إضراب الأسرى الذي قاده.
6ـ تعامل القيادة المادي مع الأسرى، ونسيان أنهم بشرٌ، ولهم مشاعرٌ وأحاسيس إنسانية، فقد اعتبرت القيادة أن للأسرى راتب في آخر الشهر، أو عضوية ترضية في المجلس الثوري أو اللجنة المركزية، وهذه المسميات بالنسبة للأسرى لا تساوي يوم حرية واحد بين الأهل والأحبة.
7ـ مماطلة العدو في تنفيذ صفقة تبادل أسرى، فمنذ حرب 2014، والمقاومة في غزة تأسر عدداً من الجنود الصهاينة، وهي جاهزة لصفقة تبادل أسرى، ولكن صلف العدو وغطرسته يحولان دون تنفيذ صفقة تبادل، وهذه المماطلة تحرض الأسرى على التفكير بكسر القيد بالقوة، والتفكير بهز القضبان غضباً ورفضاً للسكينة والانتظار.
إن كلَّ ساعةٍ تمرُّ على الأسير الفلسطيني خلف القضبان لتعادل ألف سنة مما تعدون، ولا يوجد أسير على وجه الأرض لا يفكر بانتزاع حريته إذا ما أمكنته فرصة، فإن نجح، تألق وانطلق، وإن فشل، فيكفيه شرف المحاولة والاجتهاد، ولن يضيع لمجتهدٍ جهدٌ.