توقفت مع نفسي كثيرًا كي أتخيل مشاعر الأسير المُتحرر محمود العارضة لحظة خروجه من عين النفق بعد أكثر من 25 عامًا في الأسر، وحاولت أن أستجمع ما يمكن أن يقوله لحظتها في وصف الحرية بعد أن رأى سماء بلا أسلاك شائكة وشوارع معبدة بلا جدران.
لم يتوقف الاحتلال على مر السنوات عن ابتكار سياسات التنكيل الممنهجة بحق الأسرى الفلسطينيين وفق منظومة السيطرة والتحكم، التي تهدف إلى صهر وعي الأسير، وتحويل دوره من رافعة في العمل المقاوم إلى أداة هدم وتثبيط، بسن العديد من القوانين والأنظمة التي من شأنها أن تكدر صفو الحياة اليومية الطبيعية، والحرمان من أدنى الحقوق الإنسانية، وبذلك تصبح محل التفكير الدائم ومحط النظر والمرام، كالعلاج والملبس والمأكل مثلًا، لكن هذه السياسات لم تؤتِ أكلها.
من باب التدليل لا الحصر إن قصة الأسيرة الجريحة إسراء الجعابيص التي تلاشت أصابعها بفعل حروق التهمت 50% من جسدها جراء الانفجار لحظة اعتقالها، وتعاني الإهمال الطبي وعدم تقديم العلاج المناسب لها؛ ماثلة في كل لحظة أمامنا وجميع الحالات المرضية للأسرى، لا سيما في مسلخ سجن الرملة.
وعند التعريج على الحدث التاريخي أمس الاثنين، الذي وصفه المسؤول السابق في مصلحة السجون رامي عوفاديا بأنه مشابه لذلك الفشل وتلك الخسارة لـ(إسرائيل) في حرب يوم الغفران حرب 1973؛ لم يكن وليد اللحظة، فجزء من الأسرى الذي أخذوا على عاتقهم الشخصي قضية التحرر من الأسر لهم محاولات سابقة في ذلك، أذكر محاولتهم عبر حفر نفق في سجن شطة عام 2014، لكن إدارة السجن اكتشفت ذلك مصادفة، إذ مكثوا أكثر من عام في حفر النفق، حينها نقلت إدارة سجن شطة جميع القسم (كنت فيه) من الفصائل كلها إلى سجن جلبوع الأكثر تعقيدًا من الناحية الأمنية والحراسات، بعد أقل من شهر اكتشفت إدارة السجون نفقًا آخر في إحدى الغرف في سجن جلبوع، إذ نقلت جميع الأسرى في الغرفة إلى العزل الانفرادي.
عندما نتخيل أنه بمعدات بسيطة مثل ملعقة طعام، أو مسمار، أو قطعة حديد مهربة، أو شيء قريب من ذلك يحفر نفق يمتد عشرات الأمتار، مخترقًا كل الشبكات الحديدية والأسمنت المسلح الذي صنع خصيصى للسجون، وعملية تصريف التراب بطريقة لا تلفت الانتباه، وكم استغرقت عملية الحفر رغم التفتيشات والفحص الأمني اليومي، فضلًا عن مسألة تحديد الاتجاه ومخرج النفق، إضافة إلى السرية والكتمان؛ ندرك أن معنى الحرية لا يمكن وصفه.
ما يترتب على ذلك من الناحية الواقعية على السجون لا شك سيقال مدير السجن والطاقم العامل فيه من مسؤول الأمن والاستخبارات وغيرهم، ومن الممكن أن يطال مسؤول الشاباص العام "النتسيڤ" كاتي بيري، أما على مستوى الأسرى تحديدًا فستعلن إدارة مصلحة السجون حالة الطوارئ في السجون كلها، وتعمم جملة من القوانين التضييقية على جميع الأسرى، حتى تحاول خلال هذه الحالة فرض واقع جديد على الأسرى، وسن قوانين تعسفية جديدة، واستغلال هذه الحادثة لمصادرة الكثير من الممتلكات وتحديد نوعية الملابس المسموح بها، وتنفيذ التفتيشات، والحرمان من الزيارات، والعودة إلى سياسة العزل الانفرادي لقادة الحركة الأسيرة وغيرها.
استقبلت هذه الحادثة بتفاعل شعبي وابتهاج واسع لما تتمتع به قضية الأسرى لدى أوساط الشعب الفلسطيني من مكانة ورمزية، لكن مصير الأسرى لا يخرج عن أنهم في عداد المطلوبين فإما أن يعتقلوا أو يغتالوا، وهذا من الممكن أن يقود الشارع إلى هبة جديدة ومواجهات لا تحبذها (إسرائيل) في هذه المرحلة، وأعتقد أن جيش الاحتلال لن يتخذ أي خطوة حقيقية حتى تحديد مكان المتحررين، حتى لا تنجر المنطقة إلى مواجهة، وتعمم الحالة التي تشهدها مدينة جنين منذ أشهر على جميع مدن الضفة المحتلة.