مناطق نفوذ الضبع المرقط في الصحاري والغابات تزيد على 400 كيلومتر مربع، أما مساحة قطاع غزة الذي يعيش فيه نحو 2.5 مليون فلسطيني فلا تتجاوز 365 كيلومترًا مربعًا، فكيف تصبر الملايين في قطاع غزة على حياة لا ترتقي إلى مستوى حياة ضبع مرقط؟! وكيف يتحدث المجتمع الدولي عن سلام عادل، والملايين في غزة لا ترتقي بقيمتها إلى مستوى ضبع مرقط؟! وكيف يتجرأ الوسطاء على طلب التهدئة مع غزة، وقد ازدحمت بأهلها الشوارع والطرقات والحارات والعمارات والمخيمات والمدارس والمستشفيات، وأينما يممت وجهك لا تجد إلا عشرات آلاف الشباب، وغابات من الأرجل والأيدي والعيون الشاخصة إلى المجهول؟!
مع نهاية الأسبوع حاولت أن أجد موقفًا لسيارتي على طول شاطئ البحر الممتد من رفح حتى غزة، فلم أجد موطئ قدم، فشاطئ بحر قطاع غزة يعج بعشرات آلاف البشر الهاربين من قيظ الصيف، وهكذا الحال مع المتنزهات والحدائق، حتى صارت أرصفة الشوارع ملاذًا للهاربين من البيوت التي ازدحمت بسكانها، وهكذا هو الحال في المستشفيات والمدارس والنوادي ومقرات العمل، وكلها تشهد أن غزة بحاجة إلى أربعة أضعاف مساحتها على أقل تقدير، وأن البلاد قد ضاقت بأهلها، ولم يبقَ لهم إلا الزحف بالملايين باتجاه الحدود، بهدف العودة إلى القرى والمدن الفلسطينية التي اغتصبها الصهاينة سنة 1948.
هذه الحدود الفاصلة بين الملايين التي تسكن قطاع غزة، وأرضهم المغتصبة سنة 1948؛ ليست مقدسة، هذه الحدود تحدد معالمها أحذية الجنود المنتصرين، لقد حدث هذا في إثر هزيمة الجيوش العربية سنة 1967، حين احتل (الجيش الإسرائيلي) ما تبقى من أرض فلسطين، وقد ذابت هذه الحدود بعد توقيع اتفاقية رودس 24 شباط 1949، التي بموجبها حدد قطاع غزة بمساحة 555 كيلومترًا مربعًا، ولكن هذه الحدود مسحت بعد عام، بتاريخ 22 فبراير 1950، حين وقع اللواء محمود رياض، ونائبه اللواء صلاح جوهر (كانا عضوين في لجنة الهدنة المشتركة) مع الضابط الإسرائيلي يروحام كوهين اتفاقية التعايش، التي قضت بتسليم 200 كيلومتر مربع من أراضي قطاع غزة إلى الإسرائيليين.
إنها حدود مصطنعة، تلك الحدود الفاصلة بين أهل قطاع غزة وأرض فلسطين المغتصبة، إنها الحدود التي رسمتها القوة العسكرية الإسرائيلية سنة 1948، وأعادت رسمها المؤامرة الإسرائيلية سنة 1950، وهدمتها القوة العسكرية نفسها سنة 1967، لتبرز لنا الحقيقة: أن ما تشيده القوة العسكرية بسلاحها تهدمه القوة العسكرية نفسها بسلاحها، أو تهدمه القوة العسكرية المضادة، بسلاحها أيضًا.
فلماذا لا نطالب نحن الفلسطينيين بهدم هذه الحدود القائمة بين قطاع غزة وأرض فلسطين المغتصبة سنة 1948، التي تآمر فيها الصهاينة على كل الشعوب العربية، ونجحوا في انتزاع أرض فلسطين في غفلة منهم، وبخيانة قادتهم؟!
قد يقول بعض السياسيين: هناك اعتراف دولي بالحدود، وهناك اتفاقيات سياسية موقعة!
وهنا نقول: هناك قانون الحق، وقانون الحاجة الملحة، وهناك قانون القوة، وفوق هذا وذاك هناك القانون الإنساني، وكلها قوانين تتفوق عند الضرورة على القانون الدولي.
2.5 مليون فلسطيني يعيشون في قطاع غزة على مساحة 365 كيلومترًا مربعًا، أعلى كثافة سكانية في العالم، في حين أرضهم فلسطين على مسافة النظر، يتمتع بها عدوهم الإسرائيلي، إنه واقع بائس وظالم، يحض قيادة غزة تحديدًا -هي القيادة المؤتمنة على القضية الفلسطينية- على التفكير الجدي بآلية كسر هذه المعادلة، ولو بقوة المقاومة طويلة الأمد، إن لم يكن بقوة الحق والإنسانية، بل يجب أن تضع المقاومة الخطط المتكاملة لكسر معادلة الحدود المصطنعة، بالصواريخ، أو التسلل والأنفاق، أو المتفجرات والأحزمة الناسفة، أو الزحف الجماهيري، أو بما امتلكت يد الفلسطينين من قوة، أو بالتدخل الدولي والمفاوضات مع المواجهات، أو بالموت وقوفًا، والشعب يدق على الجدران: لن نموت اختناقًا ويجوعًا، ونترك العدو ينام مطمئنًا آمنًا.
ملحوظة: الفقرة الثانية من المادة الخامسة في اتفاقية الهدنة الأصلية في رودس تنص على ما يأتي: أن خط الهدنة يجب ألا يعدّ في أي شكل من الأشكال حدًّا سياسيًّا أو جغرافيًّا، وألا يخل هذا التحديد بحقوق أي طرف لهذه الاتفاقية ولا مطالباته ولا وضعه فيما يتعلق بتسوية نهائية لقضية فلسطين.