إن عددًا من المتغيرات التي شهدتها بداية عام 2021 تشير إلى تراجع مسار التطبيع المتسارع بين الدول العربية و(إسرائيل)، بداية من رحيل ترامب عن البيت الأبيض، وحرب غزة الأخيرة، ومرورًا بخسارة نتنياهو منصبه لمصلحة حكومة إسرائيلية هشة.
لكن يبقى هناك إشارات أخرى ترجح أن مسار التطبيع ربما يعود إلى وتيرته المتسارعة نفسها، مع انخراط جديد لبعض الدول العربية التي كانت رافضةً التطبيع "المعلن"، إضافة إلى ترسيخ التطبيع القائم مع مصر ودول اتفاقية أبراهام.
يأتي في مقدمة هذه الإشارات أزمة التغير المناخي المتفاقمة، التي انعكست على اتجاه عالمي لصياغة سياسات مفاجئة وغير متدرجة للتحول من الطاقة الأحفورية (النفط والغاز والفحم) إلى الطاقة المتجددة فيما يعرف بسياسات تحول الطاقة (Energy Transition Policies)، وهو الأمر الذي سيفرض نفسه في السنوات القليلة المقبلة، ليس فقط على السياسات الداخلية للدول، ولكن أيضًا على العلاقات الخارجية والتحالفات بين الدول.
تغير الإستراتيجية الإسرائيلية والطريق نحو مزيد من صادرات الغاز
الاتجاه المتسارع نحو تحول الطاقة يصاحبه توقعات بتأثر صناعة النفط والغاز عالميًّا، وهي توقعات في مجملها تسير في اتجاه تناقص الطلب على النفط والغاز مقابل ارتفاع نسب الطاقة المولدة من مصادر الطاقة المتجددة بهدف الوصول إلى الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وتشير هذه التوقعات إلى أن فرص مبيعات وتصدير الغاز الطبيعي ستنتهي بعد عقدين أو عقدين ونصف من الآن (بحلول عام 2050)، هذا إضافة إلى ارتفاع أسعار النفط والغاز المتوقع جراء فرض رسوم وضرائب للحد من استهلاك الوقود الأحفوري.
ويبدو أن (إسرائيل) نتيجة هذه المتغيرات المتسارعة في طريقها إلى تغيير إستراتيجياتها المتحفظة في تصدير الغاز الطبيعي، التي تُلزمها باستخدام 60% من احتياطاتها للاستهلاك المحلي، وصحيح أن الإستراتيجية الإسرائيلية في تصدير الغاز هي إستراتيجية أمنية بالأساس تعتمد على أولوية تحقيق أمن الطاقة لدى (إسرائيل) من طريق تحقيق مكاسب اقتصادية ضخمة من احتياطات الغاز الهائلة لديها، لكن تقديرات بخسائر تصل إلى 70 مليار دولار نتيجة سياسات تحول الطاقة العالمية وبقاء احتياطيات الغاز الإسرائيلية دون استثمار في العقود القادمة هي التي دفعت (إسرائيل) إلى إعادة صياغة إستراتيجيتها، وتخفيض نسبة 60% لتسمح بمزيد من صادرات الغاز الطبيعي قبل فوات الأوان.
التشريع الإسرائيلي المقترح الذي سيغير إستراتيجية (إسرائيل) في تصدير الغاز سينعكس مباشرة على مسار صادرات الغاز الإسرائيلية، وهذا يعني أن المدة القادمة ربما ستشهد زيادة صادرات الغاز الإسرائيلي إلى مصر، إضافة إلى الكميات المتدفقة بناء على صفقة الغاز المبرمة بين الطرفين في عام 2018، ويصدق هذا الاتجاه المقترحات الإسرائيلية الجديدة بإنشاء خط أنابيب يربط حقل ليفايثين بمحطات التسييل المصرية إدكو ودمياط، وأيضًا محادثات وزراء الطاقة الأخيرة للجانبين، التي تشير إلى احتمالية استقبال مصر صادرات جديدة من الغاز الإسرائيلي من أجل تسييله وإعادة تصديره إلى الأسواق الأوروبية.
زيادة صادرات الغاز الإسرائيلية إلى مصر لن تدعم العلاقات المصرية الإسرائيلية الحالية فقط، ولكنها ربما تفتح الطريق لعلاقات أو تفاهمات مع دول أخرى، على رأسها لبنان وسوريا اللتان تعانيان من عدم قدرتهما على تأمين احتياجاتهما من الكهرباء ومن الغاز الطبيعي، إذ يمكن أن يصل إليهما الغاز بزيادة صادرات الغاز الإسرائيلي لمصر، وإحياء مصر خط الغاز العربي الذي يربط بين مصر والأردن وسوريا ولبنان.
التكنولوجيا الخضراء الإسرائيلية.. بوابة العلاقات مع العرب
تتميز (إسرائيل) منذ عقود بتطويرها التكنولوجيا الخضراء التي تتيح تأمين احتياجات الطاقة والمياه، بما يتوافق مع السياسات العالمية المواجِهة للتغير المناخي والمحافِظة على البيئة، واستطاعت (إسرائيل) بهذه التكنولوجيا فتح مسارات لعلاقات تجارية ودبلوماسية مع عديد من دول العالم.
ويبدو أن (إسرائيل) ترى أن هذا هو الوقت المثالي لها للاستثمار فيما تمتلكه من تكنولوجيا، لا سيما بعد الآثار الكارثية الناتجة من التغير المناخي العالمي في السنوات القليلة الماضية، ومع التسابق الدولي في التعهد بالتزام سياسات تحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري التي صاحبها التوجه المتزايد عالميًّا نحو تطوير التكنولوجيا الخضراء.
يأتي في هذا الإطار تبني الحكومة الإسرائيلية الجديدة تحت قيادة بينيت إستراتيجية "دبلوماسية المناخ"، وهي إستراتيجية تعتمد على تصدير (إسرائيل) التكنولوجيا الخضراء المتطورة لديها ومشاركة خبراتها في ذلك المجال مع الدول الأخرى، وتأمل (إسرائيل) من تلك الاستراتيجية أن تزيد وتعمق من علاقاتها التجارية والدبلوماسية إقليميًّا ودوليًّا.
في الوقت نفسه تسعى (إسرائيل) من وراء تلك الإستراتيجية إلى تمهيد الطريق للتعاون مع الدول العربية غير المطبعة، ولمزيد من التعاون مع الأخرى المطبعة من بوابة الاحتياج وبوابة التعاون العلمي والبيئي. وسيكون من السهل تخيل حجم العلاقات التي يمكن أن تنشأ تحت هذه اللافتة في منطقة تعاني أغلب دولها تناقصًا حادًّا في المياه وأزمات طاقة لا تنتهي، وتكفينا الإشارة هنا إلى امتلاك (إسرائيل) تكنولوجيا تحلية المياه ذات التكلفة المنخفضة، وتطويرها أيضًا تقنيات الطاقة المتجددة، وما يمكن أن يمثله ذلك من فرص لـ(إسرائيل) لبناء العلاقات أو لدعمها وتقويتها.
ربما لم يتخيل أحد من المتابعين لتطورات العلاقات في منطقة الشرق الأوسط أن انخراط الإمارات في علاقات مع (إسرائيل) كانت بوابته الرئيسة منذ سنوات هي التعاون البيئي والاستثمار في التكنولوجيا الخضراء، التي مهدت الطريق فيما بعد للتطبيع ولعلاقات غير مسبوقة بين بلد عربي و(إسرائيل) لم تشهدها المنطقة منذ اتفاقية السلام بين مصر و(إسرائيل) في عام 1979.
ولا شك أيضًا أن تطورات ملف تحول الطاقة في السنوات الأخيرة أصبحت ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعلاقات الخارجية والأزمات والتحالفات بين الدول، وبمعنى آخر يمكن القول إنها أصبحت مكونًا رئيسًا في السياسة الدولية، إضافة إلى انعكاسها على السياسات الداخلية للدول.
تدفعنا هذه الحقائق والمتغيرات المتعلقة بتغير إستراتيجية (إسرائيل) لصادراتها من الغاز الطبيعي واستثمارها فيما تمتلكه من التكنولوجيا الخضراء، وانعكاسات ذلك على علاقتها مع الدول العربية؛ إلى توقع أن تشهد المدة القادمة ما يمكن أن نطلق عليه "التطبيع الأخضر"، وهو في حقيقته الأخطر إذ يتمدد في فضاء غير سياسي، ولأنه يعتمد على سياق دولي مناسب من جهة ويعتمد على الاحتياج من جهة أخرى، وهو ما يجعل قبوله والانخراط فيه سهلًا ويفتح الطريق أمام تطبيع شامل ومعلن في وقت قصير.
على الجانب الآخر، ما زالت أغلب الدول العربية بعيدة عن مواكبة التحديات الجديدة لسياسات تحول الطاقة عالميًّا، وما زالت بعيدة عن صياغة إستراتيجية مشتركة تعمق من تعاونها وتكاملها فيما بينها في مجالات النفط والغاز والطاقة المتجددة، لا سيما أنها تمتلك مقدرات وموارد طبيعية تمنحها التفوق والتميز، بدلًا من انخراط كل دولة على حدة في علاقات مع (إسرائيل)، والتدافع نحو ترسيخ التطبيع الذي ستكون (إسرائيل) هي المستفيد الأول منه.