رغم ما يحوزه الاحتلال من إمكانات عسكرية ومقومات اقتصادية ذلك لا يمنع نخبه العلمية والبحثية من إثارة الشكوك المستقبلية في مدى قدرته على الصمود في هذه المنطقة المعادية، مع استبعاد أي خيار تسووي، ما يرجح وضع تقديرات بنشوب مزيد من المواجهات العسكرية في ضوء جملة من الاعتبارات.
تستند هذه التقديرات الإسرائيلية المتشائمة إلى توطئة تاريخية تتمثل بشهر أيار (مايو) من كل عام، إذ يحيي الإسرائيليون يوم "الاستقلال" المزعوم، وفي الوقت ذاته يحيي الفلسطينيون يوم "النكبة" التي حلت بهم في التاريخ ذاته، وهي مفارقة سياسية قلما حصلت في تاريخ الأمم والشعوب، فاليوم ذاته "عيد" لليهود، و"كارثة" للفلسطينيين، وتزداد المفارقة كآبة وخوفًا، من وجهة نظر الاحتلال، مع العجز عن الوصول لتسوية سياسية بينهما.
يصلح هذا الاستهلال لمناقشة فرضية قدرة (إسرائيل) دولةً على الاستمرار، والبقاء دولةً ذات سيادة، ما يضع علامات استفهام كثيرة حول المستقبل المحيط بها، والمآلات التي تنتظرها في هذه المنطقة، إذا تغيرت موازين القوى المادية، واختلفت التحالفات الإستراتيجية في الإقليم والعالم.
هنا يطرح الإسرائيليون "المتشائمون" جملة من التساؤلات المتعلقة بفرضية البقاء والوجود، ومنها: إلى متى ستبقى (إسرائيل) قادرة على استيعاب المخاطر الكامنة أمامها، وتشكل تهديدًا وجوديًّا لبقائها في هذا الشرق الأوسط؟ وهل سيصمد الإسرائيليون على العيش بهذه المنطقة دون حاجة لتوقيع اتفاق سلام قابل للبقاء والاستمرارية، مع جميع جيرانها العرب، لا سيما مع انتشار مظاهر الكراهية والعداء رغم اتفاقيات التطبيع الأخيرة؟
تكتسب الإجابة عن هذه التساؤلات أهمية استثنائية، رغم امتلاك الاحتلال جميع عناصر القوة العسكرية بأبعادها التقليدية وفوق التقليدية، واحتكار نووي مطلق، وسيطرته على أراضٍ فلسطينية وسورية ولبنانية، لكن السؤال الذي بات يهدد صناع القرار في (تل أبيب) هو: كيف سيتسنى لـ(إسرائيل) البقاء؟ وهو سؤال أصبح موضع تداول داخلها وخارجها في الدوائر الحاكمة والداعمة لها على حد سواء، فكيف يتسنى ذلك؟
كثير من اليهود يعتقدون أن مستقبل (إسرائيل) ومكانها في الشرق الأوسط باتا مهددين الآن كما لم يكن لعدة أجيال، فهل ستبقى الدولة اليهودية على قيد الحياة؟ وبأي ثمن؟ وبأي هوية؟ وهي أسئلة تبقى مطروحة دون أن توفر إجابة شافية واضحة صريحة، لكن النقاشات التي تنطلق منها تغلب عليها سمات اليأس والإحباط خشية أن يكون الأمر قد فات، لأن الثقة بإمكانية بقاء (إسرائيل) باتت ضعيفة جدًّا، وفق هذه النظرة الإسرائيلية.
بشكل لافت تظهر معضلة قائمة على التناقض بين قوة آلة (إسرائيل) العسكرية من جهة، والمخاوف على مستقبلها من جهة أخرى، صحيح أن الآلة العسكرية نفسها أقوى من أي وقت مضى، لكن الإسرائيليين بات لديهم نفسيات أكثر عرضة للسقوط من أي وقت مضى.