يستعد قادة العالم لمناقشة قضية التغير المناخي وآثارها على كوكب الأرض، في قمة عالمية تشهدها مدينة غلاسكو الأسكتلندية، والمعروفة باسم مؤتمر الأطراف السادس والعشرين (COP26) وتنظمها الأمم المتحدة في نوفمبر/تشرين الثاني القادم.
وتكتسب هذه القمة أهمية كبرى في وقت تتعافى فيه دول العالم من تبعات جائحة كورونا، وما تسببت فيه الجائحة من آثار اقتصادية نتيجة الإجراءات الاحترازية المشددة التي شهدها العالم، وأدت إلى إغلاق وتوقف قطاعات إنتاجية وصناعية وتجارية لفترات طويلة.
كما تكتسب هذه القمة زخمًا كبيرًا قبل انعقادها بنحو ثلاثة أشهر، بُعيد صدور تقرير أممي في العاشر من أغسطس/آب الجاري، يحذر من تسارع ارتفاع درجات الحرارة على كوكب الأرض، وينذر بكارثة لا تقل سوءًا عن جائحة كورونا، وربما تفوقها ضررًا بسبب استمرارها لسنوات طويلة، والظواهر المناخية المتطرفة التي سيشهدها العالم بوتيرة أسرع خلال العقد القادم.
التقرير الذي أطلقته الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالمناخ في الأمم المتحدة، أشار بنبرة واضحة إلى التأثير البشري الذي أدى إلى زيادة انبعاث الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري والمتسببة في ارتفاع حرارة الأرض.
وتأتي هذه الغازات، وأهمها ثاني أكسيد الكربون، بشكل رئيسي من مداخن المصانع وعوادم السيارات، حيث تشكل حاجزًا في طبقات الجو العليا يمنع تناثر أشعة الشمس المنعكسة من الأرض ويوقف تسربها خارج الغلاف الجوي، فتزيد درجة حرارة الأرض في ظاهرة تعرف بظاهرة الدفيئة أو الاحتباس الحراري.
كما يشير التقرير إلى أن موجات الحر أصبحت أكثر تواترًا وشدة، حيث سجلت السنوات الخمس الماضية درجات حرارة هي الأكثر على الإطلاق منذ بدء عصر الصناعة عام 1850.
كما يرصد التقرير ارتفاع درجة حرارة الأرض بأكثر من درجة مئوية واحدة خلال العقد الأخير مقارنة بالخمسين عامًا التي تلت الثورة الصناعية أي حتى مطلع القرن العشرين، ويتوقع التقرير زيادة درجات الحرارة إلى 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما بين عامي 1850-1900 بحلول عام 2040، ما يهدد بزيادة حدوث ظواهر مناخية متطرفة غير مسبوقة في التاريخ تتمثل بالأمطار الغزيرة في أماكن من العالم، وزيادة موجات الجفاف والتصحر في أماكن أخرى.
ولم تعد آثار تغير المناخ وارتفاع درجة حرارة الأرض مقتصرة على المختصين، ورهن أدراج الأكاديميين في مراكز الأبحاث والمختبرات العلمية، بل باتت ملموسة بشكل واضح خصوصًا في العقد الأخير، حيث نشهد سنويًا كوارث طبيعية عالمية من فيضانات وأعاصير مدمرة، وحرائق غابات، وجفاف وتصحر مساحات واسعة من الأراضي، وشحٍ في المياه، وما سببه ذلك من تدهور في الزراعة وتهديد للأمن الغذائي، وزيادة الفقر والجوع، عدا عن ذوبان الجليد القطبي وما ينذر به ارتفاع منسوب البحار من غرق مدن بأكملها.
لقد دقت الفيضانات التي اجتاحت أوروبا والصين خلال الصيف الجاري، وما خلفته من دمار واسع، نتيجة الأمطار الغزيرة، إضافة إلى حرائق الغابات التي شهدتها تركيا واليونان وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية، جرس الإنذار للتأهب لكوارث أشد عنفًا، وزادت على معظم اقتصادات العالم النامي والمتقدم أعباءً كبيرةً لا تقل عمَّا أحدثته جائحة كورونا، فهل أصبح العالم على شفا جائحة جديدة سببها الإنسان؟
تشكل كل من جائحة كورونا وظاهرة الاحتباس الحراري تحديًا كبيرًا أمام الإنسان في صراعه للبقاء، فكلتاهما تهددان صحته، وتدمران اقتصاد المجتمعات، وتتركان آثارًا طويلة الأمد تحتاج إلى جهود ضخمة لتجنب عواقبها.
تهدد التغيرات المناخية بشكل كبير الدول النامية، والتي تعتمد باقتصادها على الزراعة، على الرغم من أنها الأقل تسببًا في غازات الاحتباس الحراري، وكما عبرت جائحة كورونا الحدود وانتشرت في أرجاء الأرض، فإن ظاهرة التغير المناخي هي أيضًا ظاهرة عابرة للحدود، تتشارك فيها الدول في العواقب، رغم عدم تساويها في المسببات.
وإذا كانت جهود العلماء والطواقم الطبية، والحكومات، قد نجحت في احتواء جزئي لجائحة كورونا من خلال إجراءات التباعد الاجتماعي، والإغلاق الجزئي والشامل، وإجراء الفحوصات الطبية للكشف المبكر عن المصابين، فإن النجاح الأبرز كان في السباق مع الزمن لابتكار اللقاح المضاد للفيروس، والذي حصّن الملايين وجنبهم تبعات تفاقم أعراض المرض التي قد تصل إلى الوفاة.
وفي مواجهة ما يمكن اعتباره "جائحة" التغير المناخي وتجنب عواقبها، فإن الحد من تأثيراتها المدمرة للمجتمعات، والمهددة لحياة الإنسان، يتطلب الابتكار في كل المجالات المتاحة، والمشاركة الواسعة على صعيد الحكومات والأفراد والمنظمات، وإذا كانت سياسات الإغلاق، وتقليل النشاطات الاجتماعية، قد ساهمت في وقف انتشار جائحة كورونا، فإن سياسات مواجهة التغير المناخي لا يجب أن تبنى على خفض حجم الأعمال الاقتصادية أو التوقف عن الإنتاج، بل على ابتكار وسائل تتيح زيادة النشاط الاقتصادي والاستثمار في تقنيات حديثة تحقق الهدف العالمي بالوصول إلى "صفر انبعاثات" بحلول منتصف القرن الحالي.
ورفعت دول الاتحاد الأوروبي بالفعل من التزاماتها بخفض الانبعاثات الكربونية بنسبة 55 بالمئة بحلول عام 2030، وتهدف إلى الوصول إلى "صفر انبعاثات" قبل 2050، فيما تعهدت الصين بتسريع عملية الاستغناء عن الوقود الأحفوري والاعتماد على الطاقات المتجددة، ووسائل النقل الكهربائية، للوصول إلى صفر كربوني بحلول عام 2060.
إن الإجراءات التي سيشهدها العقد الحالي ستكون الأكثر حسمًا في ما يتعلق بتحقيق هدف الانبعاثات الصفرية، وسيكون العنوان العريض للمرحلة القادمة الابتكار في الاقتصاد الأخضر والطاقة المتجددة عديمة الانبعاثات الغازية مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الهيدروجينية الواعدة، بالاستفادة من التطور التقني الذي حقق قفزة نوعية في إنتاج الطاقات المتجددة بتكلفة أصبحت تنافس طاقة الوقود الأحفوري، ما يشجع الدول الصناعية للاستثمار فيها والاستغناء تدريجيًا عن منتجات البترول الملوثة للهواء.
كما أن العالم مطالب بالحفاظ على موارد الطبيعة المحدودة، وإعادة الحياة إلى الطبيعة من خلال تبني سياسات التشجير الواسعة، وترشيد استهلاك الطاقة وتبني أسلوب حياة أكثر صداقة للبيئة الطبيعية، بما يحافظ على الصحة العامة ويزيد فرص العمل، ويحقق العدالة الاجتماعية ويزيد من رفاهية الإنسان.