خمسون عامًا هي السنوات التي مرت على الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وما تبقى من مدينة القدس، حينها اكتملت مسرحية انسحاب القوات العربية من الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان السوري، كانت الخسارة كبيرة وعظيمة، إذ لم تقتصر عندئذ على الأراضي العربية التي باتت تحت سلطة الاحتلال، ولكنّ الخسارة الأعظم هي في مكونات الضمير العربي الرسمي، الذي استطاع أن يوصل وهمًا إلى الشعوب المقهورة بنار الاستبداد، أن لا طاقة اليوم لنا بجالوت وجنوده، وسهل هذا النظام المهمة بشتى الوسائل لجالوت يسرح ويمرح، ولا يحتاج الكثير لأن يجبره أحد على التراجع عن غيّه وصلفه.
إنّ المصيبة الأكبر والنكسة الأعم هي ما أصاب منظومة النضال الفلسطيني نفسه، والمتمثلة في منظمة التحرير الفلسطينية، التي سلكت طرقًا لم تكن واثقة في صحتها، بعد شطبها بنودًا من الميثاق الوطني الفلسطيني، إذ ذهبت في طريق شائكة لم توصلها بعد خمسة وعشرين عامًا إلا إلى طريق مسدودة، وهي إلى هذه اللحظة عجزت عن تحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإقامة دولة فلسطينية حرّة على ترابها الوطنيّ وعاصمتها القدس.
لا ينكر أحد أنّ الظروف الدولية والظروف العربية والإقليمية كانت على مدى خمسين عامًا عكس الرياح الفلسطينية والعربية، ولكن ذلك مرهون بموقف صاحب الحق ومدى صموده وثباته وتشبثه بحقوقه، يقول ناثان ثرال المحلل البارز في مجموعة الأزمات الدولية، ومؤلف كتاب "اللغة الوحيدة التي يفهمونها"، في مقال نشرته (نيويورك تايمز) عقب مرور خمسين عامًا على النكسة: "في آخر ربع قرن من المفاوضات البديلة التي قادتها الولايات المتحدة أدى عجز الفلسطينيين إلى المزيد من التنازلات، فقد قبلت منظمة التحرير الفلسطينية أن تضم (إسرائيل) الكتل الاستيطانية، وقبلت التخلي عن أجزاء واسعة من القدس الشرقية، وأقرت بأن أي اتفاق لعودة اللاجئين الفلسطينيين من شأنه أن يبدد مخاوف (إسرائيل) الديموغرافية، ووافقت على قيود عديدة على القدرات العسكرية والسيادية لدولة فلسطينية مستقبلية".
في هذا السياق جاءت تصريحات اللواء جبريل الرجوب عضو اللجنة المركزية لحركة فتح وأحد المرشحين لخلافة الرئيس محمود عباس، إذ إنّه يرى أنّ حائط البراق _وهو الحائط الغربي للمسجد الأقصى والمسمى لدى اليهود "حائط المبكى"_ يجب أن يبقى تحت "السيادة" الإسرائيلية، ولا يعرف أحد مغزى هذا التصريح سوى أنّه رسالة قد تعني استعداد القيادة الفلسطينية إلى التنازل عن مقدسات مرتبطة بالعقيدة الفلسطينية في سبيل العودة للمفاوضات، وهو رسالة للرئيس الأمريكي بمرونة القيادة الفلسطينية، وردّ على الإسرائيليين بجاهزية منظمة التحرير للتفاوض، ولحلول خلاقة تتجاوز الاتفاقيات الموقعة في أوسلو وغيرها، وإنّه أيضًا رسالة تسويقية لشخص اللواء الرجوب وقدرته على قيادة السفينة الفلسطينية، وأنّه خليفة قوي ومقبول للرئيس أبي مازن، وأنّه شريك مرن للجلوس على طاولة المفاوضات، وبديل عن دحلان.
لا أحد ينكر انكشاف ظهر الشعب الفلسطيني، وأن الهجمة الدولية اليوم هي على كل جهة رسمية أو غير رسمية _سواء أدولة كانت أم جمعية أم أحزابًا_ تدعم الحق الفلسطيني وتسانده وتشد من أزره، وما يحدث اليوم من مهاجمة قطر وتركيا والتحشيد ضدهما وغيرهما من حركات وجمعيات مرده في الأساس إلى الدور الذي تقوم به تلك الجهات من مدّ يد العون إلى الشعب الفلسطيني، علمًا أنّ هذا العون عون إنساني لا أكثر، ولا يخالف القوانين الدولية ومنسجم مع مواثيق جنيف.
إنّ أفضل ما يجابه به فكر النكسة وثقافتها هو جمع الكلمة الفلسطينية على أهداف واضحة بآليات متفق عليها، والتمترس خلفها، فالحقيقة التي يجب ألا تساور صانع السياسة الفلسطيني هي أنّ الشعب الفلسطيني ثابت على أرضه، وراسخ فيها، ولن تتكرر عملية تهجيره قسرًا، مهما بلغت السبل، فقد نضج هذا الشعب وأصبح خبيرًا بالمؤامرات ودهاليزها، ولا يبقى سوى أنّ ترتقي أي قيادة فلسطينية إلى مستوى طموح هذا الشعب، وتقدم له ما يخرجه من نكبات ونكسات ما زالت مستمرة.