مع اشتداد الهجمة على غزة ومقاومتها، وتآمر الشقيق مع العدو، والاتفاق الدولي على تصنيف مقاومة العدو الصهيوني إرهاباً، فقد أصبح واضحا وجلياً أن تشديد الحصار على غزة هو السياسة المحظية. وقد تكاتفت قوى محلية وإقليمية ودولية لتنفيذ هذا المخطط الذي يرجون من ورائه انهيار المقاومة في غزة، وتفجير المجتمع المحلي في وجهها.
بعيداً عن سرد كثير من الخيارات التي يتبادر إليها الذهن سريعاً، والتي غالباً ما تفشل في توفير حلول حقيقية لهذا الوضع المعقّد، كما فشلت على مدار أحد عشر عاماً سبقت، ومع الجدوى المحدودة لقيام مئات من الشبان بالمواجهة غير المسلحة مع العدو على حدود غزة، لأنه بدون انخراط عشرات الآلاف منهم في هذا العمل، فسيظل تأثيره ضعيفاً جداً، لكننا سنسلط الضوء على الخيار الأكثر حظاً من وجهة نظر الكاتب. فكل حركات التحرر استعملت حرب الاستنزاف وحرب العصابات لتحقيق النصر على العدو، وحتى تسجيل نقاط عليه في معركة التحرير طويلة الأمد. وإن كان وجود حليف إقليمي أو دولي داعم للمقاومة غير متوفِّر، كما حركات التحرير في الغالب، إلا أن وجود مجتمع العدو في مرمى نيران المقاومة، وعلى غير عادة البلاد التي وقعت تحت نير الاستعمار، فإن رغبة الاحتلال ومجتمعه في الحصول على الأمن ستمنح المقاومة الفرصة للحصول على مطالبها المشروعة مقابل الأمن المؤقت؛ لا مقابل الاعتراف.
يتوقع الجميع أن مجرد فتح باب المواجهة مجدداً سيفتح نار جهنم على غزة، ولن تستطيع المقاومة في ظل الظروف المحيطة من أن توقف العدوان، وسوف يستفرد بها العدو، ولذلك يهرب الجميع من مجرد طرح هذا الأمر كخيار ممكن.
إن مواجهة مستمرة لكنها منضبطة ستكون حلاً مناسباً، وهي تختلف كلياً عن مواجهة مفتوحة. فإن السماح لقوى المجتمع المتذمرة من بطء الإعمار ومن استمرار الحصار، بأن تتنفس في وجه العدو، مع تهيئة المجتمع المحلي والدولي بعواقب استمرار الحصار، الأمر الذي يعني إطلاق يد البعض في توجيه ضربات محدودة جداً إلى العدو، سيجذب أنظار العالم إلى قضية غزة العالقة. بالطبع سوف يرد العدو بقسوة، وفي هذه الحالة يجب ألا تندلق المقاومة وتجيبه برد موازٍ، بل يجب أن يكون منضبطاً تماماً وفي حده الأدنى. فبضعة صواريخ تسقط في مناطق فارغة لدى العدو، والمحافظة على ذلك مع تنويع أهدافها، ولمدة زمنية طويلة نسبياً، مع غض الطرف عن حجم الرد الهمجي المتوقع أن يسدده العدو لغزة ولمقاومتها، فإن من شأن هذا التكتيك أن يدفع العدو بعد بضعة أيام أن يخفض سقف هجماته إدراكاً منه لشكل المواجهة التي ترغبها المقاومة، ومن المرجح أنه سيتجاوب مع هذا التكتيك فيعامله بذات القدر، أملاً في عدم التصعيد، وعدم تململ الجبهة الداخلية لديه، والتي تستطيع التعايش مع بضعة صواريخ يومياً، لكنها لا تتعايش مع حرب واسعة تدوم عدة أشهر. عوائد هذه المواجهة المنضبطة عديدة: فهي تضع غزة واحتياجاتها على أولويات الإعلام العالمي. وتدفع كل القوى الدولية والإقليمية والمحلية لإيجاد حلول لهذا الوضع الجديد الذي خلقته المقاومة. على المقاومة أن تكون حازمة في تقديم شروطها، وأن تكون مرنة أيضاً في التجاوب مع شروط الآخرين بالقدر الذي يحقق مصالح المواطنين ويحفظ للمقاومة سلاحها وأمنها ويضمن عدم الاعتراف بالعدو.
على صانعي القرار في قوى المقاومة الفلسطينية كافة أن يتدارسوا هذا الخيار، وأظنه هو الخيار الوحيد المجدي والممكن في ظل الظروف المعقدة الحالية والتي فشلت فيها حتى اللحظة كل الخيارات الأخرى، قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}. (النساء 75)