كانت سيارة شرطة بيضاء اللون مغلقة تتسع لتسعة ركاب بانتظارنا، أمروني أن أجلس فيها في المقعد الخلفي، وجلست مجندة إلى جانبي، أما الضابط فجلس في المقعد الأمامي، سارت السيارة إلى الجنوب ثم انحرفت شرقاً باتجاه سلوان، وأمام مدخل ما أسموه زوراً مدينة داود المقابلة لسلوان توقفت السيارة، هبط منها أشخاص وصعد آخرون يرتدون الزي العسكري وهم يحدجونني بتوجس، توجهت السيارة بعدها غرباً إلى تلبيوت، ثم شمالاً باتجاه باب الخليل، توقفنا أمام بوابة معدنية، قرأت على اللوحة: "مركز القشلة".
اقتادني الجنود إلى ممر ضيق قذر أمام باب مصفَّح لا يُفتح إلا بشيفرة خاصة على مكاتب التحقيق، أمروني بالجلوس على مقعد غير مريح، والانتظار.
مرَّ الوقت طويلاً ثقيلاً مملاً، أخذت عضلات ظهري تتصلب وكتفي تتشنج وفي نفسي تدور معركة ضارية بين قلق فرض نفسه عليَّ وإرادة تصبو إلى هزيمة احتلال يملي عليَّ أوامره بعجرفة ويروم كسر أنفتي، تحايلت بالاستغفار والتسبيح والتهليل وقراءة ما أحفظ من القرآن، وأحياناً رددت أناشيد كثيراً ما ألهبت الحماسة في روحي: "يا قدس إنا قادمون، بارودتي، يا أمنا الحنون... ".
ألححت كثيراً على الجنود الذين يحرسون المكان أن يدعوني أتصل بأهلي لأخبرهم بأنني معتقلة، فلا أحد يعلم أين أنا، لا بد أن القلق عليَّ قد أكل قلوبهم، أختي شاهدت ولم تفهم، ولا بد أنها أخبرت زوجي، ولا بد أن زوجي يحاول الاتصال بي الآن، ليجد موبايلي مغلقًا، هل علمتْ أختي أنهم نقلوني إلى مركز التحقيق؟ ولكن كيف لها أن تعلم وقد طردها الضابط بعجرفة دون أن تتمكن من معرفة ما سيؤول إليه مصيري؟! هل علم زوجي بأنني معتقلة؟ هل رفاق الرحلة الذين قدمتُ معهم سينتظرونني لأعود معهم أم أنهم سيغادرون من دوني عندما يحين موعد المغادرة ويطول غيابي؟ وإن غادرت الرحلة من دوني، فأين سأمضي عندما يخلي هؤلاء سبيلي؟! وإذا جنَّ الليل وأنا هنا، ماذا سأفعل؟! كيف يمكنني العودة وحدي إلى قلقيلية؟! وكم سأبقى هنا يا تُرى؟ هل سيسجنني هؤلاء أم سيدعونني أُغادر بعد التحقيق؟ هل سيُبعدونني عن المسجد الأقصى؟ ماذا سيحدث في السويعات الآتية يا تُرى؟
رفضوا أن أتصل بزوجي بحجة أن هذا ليس من صلاحياتهم، وبقيت أصارع القلق وحدي دون أن أجد شخصًا أتحدث معه يخفف عني ما أنا فيه.
تابع الوقت زحفه ببطء شديد مثل دودة عمياء، سألت الجنود عن الساعة مرات عدة، وكنت أُصغي بكامل انتباهي لأي صوت من الخارج لعلي أسمع صوت أذان العصر، ولكن كأن هذا المكان معزول بالكامل عن العالم، وفي المرة الأخيرة أخبرتني الجندية بالإنجليزية أن الساعة هي الرابعة والنصف، فأدركت أن صلاة العصر قد دخل وقتها، وقفت محاولة توجيه المقعد للقبلة لأصلي عليه، ولكنه كان مثبتاً، نهرني الحارس قائلاً: "ماذا هناك؟!"، قلت: "أريد أن أصلي"، فتركني وشأني.
فصليت في طرف المكان برغم ضيقه وقذارة الأرضية، وخلال صلاتي كان أشخاص يمرون من أمامي ولا يُلقون بالاً إلى أنني أُصلي.
بدأت الشمس تجنح للمغيب، وما زلتُ على الجلسة ذاتها، ودون أن أستطيع إخبار زوجي وأختي أنني محتجزة هنا، لا أملك وسيلة لطمأنتهم علي، وزاد من توتري وانزعاجي العبارات التي كان يقذفني بها الأشخاص الذين يرتدون ملابس عسكرية بألوان مختلفة (لا أعرف الفرق بينها) ويمرُّون من المكان باستمرار: لماذا أنت هنا؟ ماذا فعلت؟ هل صورتِ اليهود؟ لا يليق بسيدة مثلك أن تكون في هذا المكان، هل مللتِ؟ هل تريدين العودة لبيتك؟ اعملي حسابك أنك ستبقين هنا حتى الساعة الحادية عشرة ليلاً ... وهكذا.
ولا أظن أن هناك هدفاً لهذه العبارات سوى سكب مزيد من القلق والتوتر داخل نفسي، وتركي أعارك النيران التي تشتعل داخلي.
وقبل موعد أذان المغرب بقليل فُتح الباب المعدني الثقيل، وأطل منه شاب في ثلاثينياته، عسلي العينين، نحيل الجسد، يرتدي ملابس عسكرية زيتية اللون، وسألني بعربية طلقة وهو ينظر بشراسة في عيني: كيف حالك؟
فأجبت باشمئزاز: الحمد لله.
عاد يقول: هل تريدين مغادرة هذا المكان بسرعة؟
فقلت بلا مبالاة أيضاً: كما تريد، لست على عجلة من أمري (ولم أكن على استعداد لأن أعطيه مسوغاً يستعمله للضغط عليَّ بعد قليل في الداخل).
شعرت به ينغاظ من إجابتي، فارتد إلى الداخل وأغلق الباب، وبعد عدة دقائق أطلَّ قائلاً: "تعالي".
نهضتُ خلفه وأخذتُ أستطلع المكان بهدوء تام، بانتظار جولة جديدة لا أدري على ماذا ستنتهي.