كان الجو يومها قائظ الحرِّ.. والشمس تسطع بقوة وتتربع في كبد السماء في الساعة الثانية ظهرًا إلا قليلًا.. أخذ الضابط بطاقة هويتي من أمام البائكة الشمالية المقابلة لقبة الصخرة من الناحية الشمالية، وأمرني بمرافقته إلى باب الأسباط.. حاول بعض أفراد حرس المسجد الأقصى التدخل وإقناعه بأن يتركني وشأني، ولكنه قال لهم كذبًا وبعربية طَلِقَة: هو مجرد فحص عادي!
أحاط بي ثلاثة جنود، وأمامي سار الضابط المسؤول باتجاه الشمال الشرقي.. وأمرني بمرافقتهم.. وما إن ابتعدنا عن حرس المسجد الأقصى قليلًا حتى قال الضابط: أنتِ رهن الاعتقال، وكل عبارة تنطقين بها تُسجل ضدك في المحكمة!
فقلت بعفوية: وماذا فعلتُ لتعتقلني؟ فقال: هذا ما ستخبرين به المحقق في مركز التحقيق!
ثم طلب موبايلي، وأمرني بإغلاقه.. وصادره مني.
مشيت بينهم بشموخ، لم يداخلني أي شعور بالخوف أو التردد، لدرجة وصلت بي إلى مجاراة سرعتهم في المشي وعلى وجهي ترتسم ابتسامة عريضة.. كنت فخورة بنفسي فقد منعت هؤلاء الأنجاس من التمادي في تدنيس ثرى أقصانا الحبيب ودفعتهم إلى الانسحاب وصرخت في وجوههم بلا خوف، رغم ضآلة ما فعلت.
وصلنا إلى باب الأسباط، تبادل الضابط مع الجنود في النقطة العسكرية بضع كلمات بالعبرية التي لا أفهمها، وأومأ لي بالسير معه إلى الأمام، فسألت: إلى أين؟ فأشار دون أن ينطق بكلمة إلى باب رمادي اللون في الجهة المقابلة أسفل القوس الكبير كُتب عليه: مكتب شرطة باب الأسباط. لاحظت أن مجندتين انضمتا إلينا وسارتا معنا باتجاه المكتب.
عبرَ الباب المقوَّس الذي يؤدي إلى برج اللقلق تقدَّمنا الضابط، ثم انحرف شرقًا إلى درج معدني ضيق.. تبعته والجنود المدججون بالأسلحة من أمامي وخلفي وكأنني مجرمة ارتكبت إثمًا عظيمًا، حتى دخلنا المكتب.. شعرت حينها بتعب مفاجئ وارتباك وشعور عميق بالغربة، تسارعت ضربات قلبي، وأصبح فمي جافًّا جدًّا، وكأنني على وشك أن أسقط أرضًا، تماسكت، وكان هناك كرسي واحد في منتصف الغرفة الضيقة سارعت بإلقاء نفسي عليه.
كانت الغرفة ضيقة، تحوي مكتبًا خشبيًا بلا كرسي خلفه، فيها طفاية حريق وخزانة خشبية بداخلها بعض الملفات الورقية، مكيف يصبُّ هواءً منعشًا في الغرفة أشعرني ببعض الراحة، فتحت حقيبتي وتناولت قنينة الماء ورطبت حلقي بقليل منه برغم سخونته.
جلس الضابط على حافة المكتب، ووقفت المجندتان بمحاذاتي، وجنود آخرون وقفوا أمام الباب المؤدي إلى الخارج. أسئلة كثيرة ترددت في ذهني عما سيحدث معي، والمبرر من الاعتقال!
سألني الضابط: لماذا فعلت ذلك؟
لم أجبْ.. تذكرت أن أي كلمة محسوبة علي، وقلت في نفسي: بما أن هناك تحقيقًا، فليس من مسؤولية هذا الضابط أن يسألني عن أي شيء! كانت أنظارهم جميعًا موجهة إليَّ وأصابعهم تقف أمام الزناد في تهديد صريح، وكأننا في ساحة معركة.. لم أشعر بمثل اليقين الذي شعرت به آنذاك.. فأنا صاحبة حق.. الأقصى لنا ولا حق لهم فيه.. لذا يخافون مني ولا أخاف منهم.. دعوت ربي كثيرًا في سري وطلبت منه الثبات والعون.
لم أنتبه كيف خرج جميع الجنود، وبقيت المجندتان وحدهما معي؛ فقد كنت مشغولة في حديثي الداخلي. أغلقت إحداهما الباب من الداخل واقتادتني إلى مكان ضيق جدًّا شرق الغرفة، يشبه خزانة صغيرة منخفضة السقف مبنية داخل الجدار، وطلبتْ مني أن أخلع جميع ملابسي بغية تفتيشي جسديًّا.. رفضت بحزم وتحدثت لها بالعربية محاولةً إفهامها أن هذا حرام في ديننا وأن هذا المكان عام ولا خصوصية فيه، أصرَّت المجندة على طلبها وأصررتُ أكثر منها على الرفض.. بدأ الخوف ينتابني من أن تخلع ملابسي بالقوة، وهو ما سيدمرني نفسيًّا.
وبدأ التوتر يتصاعد، ناولتها حقيبتي لتفتشها لعلني أخفف من حدة الموقف.. ففعلتْ ثم ألقتْ بها جانبًا وعادتْ تأمرني بإصرار بخلع ملابسي..
تمسكت بحجابي وأنا أقول لها: يوجد هنا كاميرات.. وأنا لا أستطيع أن أخلع حجابي بوجود كاميرا..
فأشارت إلى الغرفة الرئيسة تريد القول بأن الكاميرا هناك وليس في المخزن.. فقلت لها: وما يدريني أنه يوجد كاميرا لا أراها هنا؟
بعد مدٍّ وجزر وكثير من المشاعر البشعة المضطربة، اضطررت لخلع نظارتي وحجابي وجلبابي بتردد، وتشبَّثت ببقية ملابسي.. وكنت مستعدة للدخول في معركة مقابل عدم خلعها.
تدخَّلت المجندة الأخرى التي تحرس الباب وتحدثت معها بالعبرية.. فما كان من الأولى إلى أن تنازلت عن إصرارها، واكتفت بالاقتراب مني وتمرير يديها على أنحاء جسدي بطريقة مستفزة، ثم أمرتني أن أخلع الحذاء.. ففعلت باستسلام وأنا أتنفس الصعداء!
أمرتني بعدها أن أرتدي ما خلعت، ثم فتحت الباب للضابط الذي اقتادني مرة أخرى برفقة المجندات للأسفل إلى درج برج القلق.. حينها لمحت أختي تقترب مني مهرولة تناديني بهلع: ما بك؟ ماذا حدث؟
حاولت الاقتراب منها وطمأنتها، ولكن الضابط صرخ بي أنني معتقلة ويُمنع عليَّ الحديث إلى أي أحد.. حاولت أختي الاقتراب مني فحال بينها وبيني بعنف وهددها هي أيضًا بالاعتقال.. فتراجعتْ إلى الوراء يغلب القهر على قسمات وجهها.