بيغاسوس… ذاك الحصان المجنح الأسطوري ابن "إله البحر والزلازل والأحصنة" بوسيدون في الأساطير الإغريقية. وهو أيضا الحصان الخشبي الذي استخدمه فرسان إسبرطة لخداع قادة الحرب في أثينا أثناء حرب طروادة، حينما اختبأ فيه جنود إسبرطة لدخول حصن أثينا المنيع قبيل انتهاء الحرب لصالح أثينا. وعلى هذا، عُرف حصان بيغاسوس الخشبي باسم حصان طروادة، وارتبط اسمه بالخداع وإظهار نوايا عكس ما يُطمر بالداخل. ومنذ ذاك الحين، يرتبط اسم بيغاسوس بكل شيء مادي جميل الشكل لدرجة الرقة، قوي البنيان لدرجة الصلابة.
تصدرت المشهد السياسي والاجتماعي العالمي مؤخرًا أنباء عن فيروس بيغاسوس الذي يتم تثبيته على الهواتف الذكية، من أجل اختراق خصوصية صاحب الجوال والتعرف على جميع الأنشطة التي يزاولها من خلال الموبايل؛ مثل: المحادثات الهاتفية، ودخوله على التطبيقات المختلفة، ورصد جميع تحركاته؛ لأن الفيروس له القدرة على تحديد موضع الهدف. والأكثر من ذلك، لا يحتاج إلى دخول صاحب الجوال لأحد التطبيقات، لأنه يتعرف على كلمات السر، ومن ثم يخترق الحسابات الشخصية للتطبيقات المسجلة على الجوال، ويتحرك في داخلها بكل حرية، لينهل ما يشاء من معلومات، من شأنها إظهار الجوانب الخفية لأي فرد مُستهدف.
إضافة إلى هذا وذاك، يحوِّل الفيروس الجوال إلى جهاز تنصُّت بالصوت والصورة؛ حيث يفتح جميع مكبرات الصوت في الموبايل والكاميرات لنقل صورة حية للهدف، بدون بذل أدنى مجهود، على عكس ما كان يتطلبه الأمر في الماضي من تركيب كاميرات وأجهزة تنصت، وتعيين من يراقب الهدف، كل هذا يتم حاليًّا إلكترونيًّا، دون تكبُّد أي عناء، أو أدنى مصروفات، فكل ما يتطلبه الأمر هو الضغط على رابط يأتي في شكل ملف أو صورة يرسلها أحدهم للهدف.
ومن الغريب حقًا، ما تم تفجيره من أخبار تختص بهذا الفيروس في منتصف شهر يوليو 2021 تقريبًا، وكأن أخباره لم تتنامَ إلى أسماع العالم، على الرغم من أنه موجود في الساحة السياسية بصورة نشيطة منذ عام 2012، حيث استخدمه الرئيس السابق لجمهورية بنما ريكاردو مارتينيللي عند تأسيس ما أطلق عليه اسم مجلس الأمن القومي، الذي مهمته تقفِّي تحركات المنشقين. وبالتأكيد، استخدمه من قبله العديد من حكومات العالم الأول. وقد عرف العالم العربي هذا الفيروس على وجه التحديد -لوجود العديد من الفيروسات الشبيهة- عام 2016 عندما تلقى الناشط الحقوقي الإماراتي أحمد منصور رسالة نصية على جواله ماركة الآي فون، يعده فيها المُرسل أنه بالضغط على الرابط المتواجد بالرسالة سوف يتلقى معلومات سرية بالغة الأهمية عن عمليات تعذيب تتم في السجون الإماراتية.
ومع شك أحمد منصور في الرسالة التي وصلته من مجهول، وعدم ثقته في الرابط، قام بإرسال الرابط لمعمل تحليل برمجي متخصص، اكتشف أنه بالضغط على الرابط تنهار وسائل الحماية الداخلية الموجودة في منظومة تشغيل جهاز الآي فون، وبعدها، يتم تثبيت الفيروس بشكل خفي ومستديم في الجهاز، الذي على الفور يبدأ قراءة الرسائل النصية المرسلة؛ ويتتبع المكالمات مع سماعها؛ وكذلك تحرّكات صاحب الجهاز؛ ويفك جميع شيفرات حسابات التطبيقات المختلفة على الجوال، ثم يكتنزها جميعا في داخله. ولقد عزا معمل التحليل هذا الفيروس الإسرائيلي الصنع لمجموعة «إن أس أو» NSO Group التي ملكتها شركة «شركاء فرانسيسكو» الأمريكية Francisco Partners حتى عام 2019، قبل بيعها مرة أخرى لأصحابها الأصليين في (إسرائيل).
ومن الجدير بالذكر، أنه من خلال هذا الفيروس تم تقفِّي أماكن تنقل وأسرار الكاتب الصحافي جمال خاشقجي، ما سهَّل اغتياله، أي أن هذا البرنامج أساسا كان يتم بيعه لحكومات لتقفي آثار ومعرفة أسرار جميع المشتبه فيهم من مجرمين وإرهابيين، من أجل غرض سلمي، ألا وهو استتباب الأمن. ونُشر أن الإمارات تمتلكه منذ عام 2013، وبسبب أن البرنامج كان مخصصا في بادئ الأمر لاختراق أجهزة الآي فون، فقد تم تطوير برنامج مماثل لاختراق أجهزة الأندرويد، وأطلق عليه اسم «كريساور» Crysaor، الذي يضطلع تماما بمهام بيغاسوس نفسها.
ويلاحظ أن كلا الفيروسين شائعا الاستخدام منذ زمن بعيد، ليس فقط من قبل الحكومات، خاصة الخليجية منها، التي اشترته بملايين الدولارات، بل استخدمه أيضا زعماء الجريمة في أمريكا اللاتينية لتسهيل المهام الإجرامية، إلى أن تسرَّب لأيدي العديد من الشباب والمراهقين ومن لديهم فضول للتجسس على أفراد عاديين، أو أصحاب شركات من أجل تحقيق أهداف إجرامية.
ومع كل هذا، فجّرت منظمة العفو الدولية لحقوق الإنسان رسميا على الساحة العالمية خبراً أشارت فيه أن الشركة الإسرائيلية مطورة الفيروس قد ثبتت داخل الفيروس تكنولوجيا، ما يتيح لها الولوج إلى الهاتف وجمع البيانات المُكتنزة في الفيروس، ومن ثم، تصير قادرة على التجسس على الجهات المستخدمة للفيروس أيضا، بالإضافة إلى الأشخاص المستهدفين؛ بمعنى أن (إسرائيل) تحولت إلى بؤرة معلومات عن جميع الأطراف.
والمدهش في كل هذا الموضوع أن أي متخصص في العلوم الرقمية وتطوير الفيروسات يتوقع احتمالية حدوث ذلك.. والمفاجأة الأكبر أن هذا الفيروس ليس الفريد من نوعه؛ فهناك أشباه له، حتى إن كانت أضعف، وإن كان الصادم معرفة أن التجسس عن طريق فيروس بيغاسوس، صار هيِّنًا؛ حيث أنه منذ عام 2016 استحدث فريق صيني تقنية للتجسس، من خلال موجات الواي فاي نفسه، التي تتطور يوما تلو الآخر، بشكل مذهل، لتشمل الولوج لأجهزة الجوال واللابتوب، لدرجة تمكنها حتى من معرفة ما تتم كتابته بواسطة أزرار الأجهزة. ومن المنتظر أن تصبح أكثر تكنولوجيات التجسس المعتمدة دوليا.
وبناء على ذلك سوف يفقد الإنسان أي ميزة للخصوصية، بل لن تصير الشيفرات على التطبيقات آمنة بالقدر المستطاع، ما دام الخبراء لا يطورون تقنيات مضادة تمنع انعدام خصوصيات الفرد في العصر الحديث.
وتفجير فضيحة بيغاسوس بهذه الطريقة في الوقت الحالي تفسيره الوحيد هو إلقاء الضوء على القدرات الفذة للجهة المطورة والمالكة له، أو بالأحرى دولة المنشأ؛ كي تصير فزاعة نافذة وقلعة للتكنولوجيا والدهاء عالميا؛ لتكتسب مهابة حصان طروادة، أي أن تلك الفضيحة في الأساس، الغرض منها دعائي وليس تحذيريا، كما هو مُعتقد، وتستهدف تواتر اسم الجهة المُطَوِّرة وإكسابها شُهرة وميزة إضافية في الدول الخليجية المُستخدمة للفيروس.
إنسان العصر الحديث معاناته الحقيقية هي الوجود في العالم عاريا، لا يستظل بسقف الخصوصية التي نَعِمَ بها أقرانه في العصور السابقة، ومن ثمَّ، ينبغي أن تكون تلك هي الفضيحة الكبرى التي من الواجب تسليط كل الضوء عليها.