يثار النقاش في كل مرة يحدث فيها تصعيد أو حرب على أي من الجبهات مع العدو الصهيوني، ويبرز دائمًا التساؤل المحوري لهذا النقاش، وهو: لماذا لا تتوحد جبهات محور المقاومة؟ ولماذا يترك للعدو ميزة الاستفراد بكل جبهة على حدة؟ ولماذا تقبل قوى المقاومة على الجبهات أن يمارس العدو تجاهها لعبته المكشوفة، وهي تسخين جبهة مقابل تبريد بقية الجهات وفقًا لظروف العدو الصهيوني وإمكاناته القتالية واستعداداته اللوجستية وخطته الإستراتيجية؟ وما يزيد المراقبين حيرة هو توفر اليقين من أن تبريد جبهة على حساب تسخين جبهة من قبل العدو، لا يعني بالمطلق أن الجبهة التي تركت لتبرد فترة من الزمن لن يأتي الوقت الذي تسخن فيه مرة أخرى، وقد تكون فيه هذه الجبهة في أضعف حالاتها، وفي المقابل توفر اليقين بأن اتحاد الجبهات يعني وعلى أقل تقدير رفع كلفة الحرب أو التصعيد على العدو، بما يؤدي إلى تراكم قوة الردع العام لدى قوى المقاومة، وبما يجبر العدو على الخضوع لما تمليه عليه قوى المقاومة من شروط، خاصة في ظل توفر الوسائل الفعالة لدى قوى المقاومة لخلخلة الجبهة الداخلية لدى العدو على نحو قد يرفع الخطر الوجودي لدى كيان العدو على نحو غير مسبوق.
وما دام الوضع كذلك، فلماذا لا تتوحد الجبهات إذًا؟ بالرجوع إلى تاريخ الصراع العربي الصهيوني نجد أن جبهات القتال مع العدو كانت دائمًا موحدة، وهذا ما حدث في حروب أعوام 1948 -1967 -1973، بغض النظر عن نتائج هذه الحروب، ولقد كان التنسيق العسكري والسياسي بين تلك الجبهات في أعلى مستوياته، وكان ذلك يتمثل في اللقاءات المستمرة والمنتظمة لقادة الدول التي تشملها جبهات القتال مع العدو وهي سوريا والأردن ولبنان ومصر، وذلك لتنسيق المواقف السياسية في المحافل الدولية، كذلك اللقاءات المستمرة والمنتظمة أيضًا للقادة العسكريين لهذه الجبهات، وتدارس ميدان المعركة ووضع الخطط المشتركة ودور القوات المختلفة في الميدان والتنسيق بين هذه القوات بما يحقق الهدف المرجو من الخطط الحربية الموضوعة.
وكذلك لم يكن يخلو الأمر من الدعم والمساندة العسكرية والسياسية لبقية الدول العربية من دعم هذه الجبهات عسكريًّا وسياسيًّا، وهذا ما حدث في الحروب الثلاث التي خاضها العرب ضد (إسرائيل).
وعلى الرغم من ذلك التنسيق العالي الوتيرة بين جبهات القتال العربية في ذلك الوقت، فإن نتائج الحروب كانت دائمًا مخيبة للآمال، باستثناء حرب 1973م التي حققت انتصارًا جزئيًّا على العدو، لم يفلح في إزالة آثار هزيمة عام 1967م ونكبة 1948م، إذ بقيت هيمنة كيان الاحتلال العسكرية على المنطقة واضحة المعالم لا ينكرها إلا من يعيش وهم الانتصار الحاسم.
بل إن النصر الجزئي الذي تحقق في حرب 73 أدى إلى هزيمة عربية سياسية قاسية، خرجت بمقتضاها مصر من الصراع ووقعت أول اتفاق سلام مع العدو، في مفارقة واضحة لما أنجز عسكريًّا وما تحقق سياسيًّا.
بالعودة للسؤال مثار النقاش في هذا المقال، لماذا لا تتوحد الجبهات في هذه الآونة وهي أحوج ما تكون إلى هذه الوحدة في ظل الواقع الجيوسياسي الذي تحياه المنطقة، وفي ظل الهمجية الشرسة التي تشنها قوى التطبيع المدعومة أمريكيًّا ضد محور المقاومة؟ لماذا لا يعود التنسيق للجبهات كما كان في سالف عهده، الأمر الذي قد يؤدي إلى مراكمة القوى ومضاعفة قوى الردع لدى قوى المقاومة كما أسلفنا، خصوصًا في ظل النجاحات التي حققتها الجبهات منفردة في جولات التصعيد والقتال وهو ما شهد به كل الخبراء العسكريين.
أظن أن الإجابة عن هذا التساؤل تكمن في نقطتين أساسيتين:
النقطة الأولى: هو أن الوضع السياسي في جبهات القتال العربية لم يعد كما كان في الأوقات السابقة وخصوصًا في الجبهتين الأنشط والأسخن وهما جبهتا الشمال والجنوب، ورغم قوة أداء المقاومة في كلتا الجبهتين، فإن القوى السياسية في كلتا المنطقتين ليست على توافق فيما يخص الحرب مع العدو، ففي فلسطين توجد سلطة رسمية لديها اتفاقات سلام مع العدو ألزمت نفسها بها أمام العالم، وربطت مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية بهذه الاتفاقيات، فأصبحت مرهونة كسلطة سياسية وجودًا وعدمًا بهذه الاتفاقيات، الأمر الذي يمنعها من أن تمارس "حقها القانوني" في مقاومة المحتل وفقًا للقانون الدولي، بل أصبحت معول هدم ضد قوى المقاومة.
أما في الجبهة الشمالية فإن اختلاف القوى السياسية الطائفي والسياسي أوجد حالة من التمزق الداخلي الذي استغله العدو الصهيوني جيدًا في الضغط على المقاومة في لبنان من خلال الوضع الداخل اللبناني الذي شهدنا جميعًا تجلياته في الأزمة السياسية اللبنانية.
النقطة الأخرى التي تحول دون توحد الجبهات، هي صعوبة التواصل العملياتي بين الجبهات كما كان سابقًا، وذلك بفعل التغيرات السياسية في المنطقة، إذ تفرض الحكومات العربية قيودًا شديدة على تحرك قوى المقاومة وتمنع أي تواصل فعال بين تلك القوى، الأمر الذي يحول دون التنسيق العملياتي وفقًا لخطط معدة مسبقًا تستند إلى حجم القوى الموجود لدى كل جبهة والدور المنوط بكل جبهة وفاعلية عناصر القوة لدى كل جبهة ووقت استخدامها في الميدان.
إذًا هل يعني ذلك أن توحد الجبهات أمر غير متاح حاليًّا؟ لا يمكن قول ذلك على إطلاقه، ولكن أظن أنه يمكن أن تتوحد هذه الجبهات بالحد الأدنى من التنسيق على صعيد توحيد الموقف السياسي (القائم أصلًا) ومن ثم توحيد الموقف القتالي بفرض قواعد اشتباك جديدة مع العدو، تكرس مفهوم أن الاعتداء على جبهة يعني الاعتداء على كل الجبهات، والتصعيد في جبهة يعني التصعيد على كل الجبهات، وذلك باستغلال الوسائل والإمكانات المتاحة لدى كل جبهة، وهذا ما سيجبر العدو من وجهة نظري على التخلي عن تكتيك تبريد جبهة على حساب تسخين جبهة أخرى، ما يفقده عاملًا مهمًّا من عوامل تعزيز قوى الردع لديه، وفي المقابل ستعمل قواعد الاشتباك الجديدة عند تثبيتها على تعزيز قوة الردع لدى محور المقاومة، بما يمكنها من تحقيق عدة أمور أهمها: إفقاد العدو القدرة على المباغتة، وتعزيز محور المقاومة سياسيًّا وضرب مشروع التطبيع العربي.
وسينعكس ذلك حتمًا على استقرار الأوضاع السياسية الداخلية في دول محور المقاومة وذلك لوجود حالة من التوازن في مراكز القوى الذي فُقد مؤخرًا في محور المقاومة، نتيجة مآلات الربيع العربي.