طالما تغنّى الرئيس الراحل، ياسر عرفات، بما كان يسمّيها "ديمقراطية غابة البنادق الفلسطينية"، والمقصود بها: تعايش مختلف التيارات والفصائل والتنظيمات الفلسطينية المسلحة، وإدارتها الشأن الفلسطيني، عبر مؤسسات منظمة التحرير بالحوار الديمقراطي والتفاهم والتوافق والتراضي، ورفض الاحتكام للسلاح، مهما بلغت الخلافات داخل البيت الفلسطيني.
اليوم، يعود مساعد نائب وزير الخارجية الأمريكي، هادي عمرو، إلى الحديث عن غابة فلسطينية أخرى، بوصفه السلطة الفلسطينية بـ"الغابة الجافّة"، المُعرّضة للحريق أو السقوط في أي لحظة، ما لم تُروَ أغصانها ببعض الماء، وتُغذَّ جذورها بشيءٍ من السماد. والمقصود من كلام المسؤول الأمريكي هو ضرورة التحرّك، التحرّك الإسرائيلي أولاً، للقيام بأي إجراءاتٍ ضروريةٍ لضمان بقاء السلطة ومنعها من الانهيار أو الاحتراق.
وتستند رؤية المسؤول الأمريكي لإنقاذ غابة السلطة الجافّة، من جراء أزماتها السياسية والشرعية والاقتصادية والمالية، إلى خطواتٍ وقائيةٍ بدايةً، في إطار السلام الاقتصادي الذي اخترعه بنيامين نتنياهو، أي تحسين شروط الاحتلال أو تخفيفها مقابل الاستقرار، من قبيل استئناف الدعم المالي والاقتصادي، مع وقف توسيع الاستيطان وغيرها من الإجراءات التي تعود بالوضع إلى ما كان عليه قبل 28 سبتمبر/ أيلول 2000، أي قبل اندلاع الانتفاضة الثانية. ويسمي المسؤول الأمريكي، يوافقه في ذلك مسؤولون في السلطة الفلسطينية، تلك الخطوات "إجراءات بناء الثقة" على طريق العودة إلى المفاوضات.
ولإنقاذ الغابة الفلسطينية الجافّة، وعد هادي عمرو الفلسطينيين بالعودة إلى مفاوضات ثنائية مباشرة مع (إسرائيل)، بعد انتهاء إدارة الرئيس جو بايدن من المفاوضات النووية مع إيران، وطلب إعداد فريق تفاوضي مع تحضير رؤية فلسطينية لمرحلة بناء الثقة التي ستمهد لمرحلة المفاوضات بشأن الملفات الكبرى، على قاعدة أن لدى الإدارة الأميركية مبادئ أساسية في تعاملها مع الصراع: أولها، الإصرار على مقاييس متساوية بين طرفي الصراع في الحرية والأمن والازدهار إلى جانب الالتزام بالتوافق الدولي وتنفيذ القرارات الدولية.
من خلال رصد تحرّكات فلسطينية وإقليمية تكثفت خلال عطلة عيد الأضحى، يتبين للمتابعين أن السلطة الفلسطينية رحبت بحرص المسؤول الأميركي على إعادة الحياة إلى غابتها، وسط تعاظم المخاوف من خطر الانهيار أو الاحتراق، سيما بعد تبدّد التعايش في غابةٍ تغول فيها السلاح الفلسطيني داخل البيت، غابت مؤسسات الحوار والحكم الديمقراطي، بدءًا بحل المجلس التشريعي، وإحكام قبضة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية، وتأجيل الانتخابات إلى أجل غير معلوم، وصولاً إلى قتل نزار بنات وما تلاه من قمع مظاهرات سلمية واعتداء على الإعلاميين، وزجّ عشرات الناشطين في السجون من دون محاكمات أو تهم.
سال لعاب قيادات السلطة الفلسطينية، ورأت في حرص المسؤول الأميركي فرصة لإنقاذ غابتهم الجافّة من الاحتراق، فسارعوا إلى وضع قائمة تحت عنوان "إجراءات بناء الثقة" تضمنت 30 بندًا، وشملت مطالب أمنية وسياسية واقتصادية، أبرزها تجميد الاستيطان، إبقاء الوضع القائم في المسجد الأقصى كما هو، والتوقف عن هدم المنازل الفلسطينية، وقف توسيع المستوطنات، بما في ذلك في القدس المحتلة، وإخلاء بؤر استيطانية عشوائية مقامة في أراضٍ بملكيةٍ فلسطينيةٍ خاصة في الضفة الغربية. وتنفيذ "النبضة الرابعة" بالإفراج عن أسرى كان ينبغي الإفراج عنهم منذ العام 2014، بموجب اتفاق إسرائيلي – فلسطيني، إلى جانب الإفراج عن أسيرات وأسرى مسنّين وقاصرين وجثامين شهداء.
قد يعيد هادي عمرو بعض المياه إلى عروق غابة السلطة الفلسطينية، بعد فشل متواصل ومتناسل منذ ثلاثة عقود، لم يتحقق فيها لا سلام سياسي ولا ازدهار اقتصادي. وقد يقبل الإسرائيلي ببعض الشروط لإنقاذ سلطة تترنّح على حافّة الانهيار، لا حبًا بها، ولكن حرصاً على استمرار ما تقدّمه أجهزة السلطة الأمنية من خدماتٍ لأمن (إسرائيل) وحمايتها. قد نرى بعض الحياة تدبّ في أوصال غابة محمود عباس الجافّة، ولكن الأكيد أن الحياة جفت في غابة ياسر عرفات، حيث تعايش الكل الفلسطيني تحت ظلال ديمقراطية تحميها البنادق.