لم تنتهِ معركة سيف القدس بتاريخ 21 مايو من هذا العام، فالمعركة ما زالت مستمرة في كل الساحات، وعلى كل المستويات، ولها ارتداداتها النفسية والمجتمعية التي باتت تقلق العدو الإسرائيلي، وتحير المختصين في علم الاجتماع، ولا سيما بعد أن تجاوز صدى معركة سيف القدس أطراف غزة، وتخطى حدود فلسطين، ليصل إلى معظم دول العالم، بعد أن ترك بصمته على وجدان الشعوب التي خرجت بعشرات الملايين إلى الشوارع، تفتش عن الحقيقة، وتتساءل عن أصل الإرهاب الصهيوني، وتبحث عن ركائز القوة الفلسطينية التي اخترقت المستحيل، وفرضت نفسها نداً في الميدان.
التحول العميق في وجدان الأمم فعلٌ تراكميٌّ، تجلى فيه التغيير الكيفي مع معركة سيف القدس التي عصفت بالمفاهيم الصهيونية، وفضحت الأكذوبة داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، وفق أحدث تقرير لمعهد دراسات الأمن القومي، فيما يتعلق الشعور بالأمان بعد معركة سيف القدس، حين أجاب 53٪ من الإسرائيليين أنهم فقدوا الإحساس بالأمن، وهذه أغلبية قلقة على مستقبلها، الذي لم يعد آمناً إلا لنسبة 5% فقط من الإسرائيليين، الذين قالوا: إنهم يشعرون بالأمن.
لم يقف تأثير معركة سيف القدس على اليهود داخل الدولة الصهيونية، وإنما وصل التأثير حتى النخب السياسية الأمريكية، وتلك الأوساط المجتمعية التي دأبت على موالاة الصهاينة، فإذا بمعركة سيف القدس تُحدث شرخاً عميقاً في فكر الحزب الديمقراطي، وفي مستوى التأييد والتعاطف مع الأكذوبة الإسرائيلية، حين أدان عدد من نواب الكونجرس الأمريكي الاعتداءات الإسرائيلية، وسياسة الاحتلال العنصرية، وقد أرسل 138 نائباً ديمقراطياً في الكونجرس خطاباً إلى بايدن، يطالبونه بإدانة قتل المدنيين من الناحيتين، وليس من ناحية واحدة فقط، وطالبوه بالضغط على العدو الإسرائيلي لوقف القصف على غزة.
ارتدادات معركة سيف القدس وصل تأثيرها إلى المجتمع الأمريكي المسيحي، فقد أقرت كنيسة المسيح المتحدة خلال مؤتمرها السنوي عد (إسرائيل) دولة فصل عنصري، ووصفت الاضطهاد الذي تمارسه (إسرائيل) بحق الفلسطينيين بأنه خطيئة، وقد يكون أصدق تعبير للتحول ما عبرت عنه شركة مثلجات "بن و جيري" التي ستتوقف عن بيع منتجاتها داخل المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، لأن ذلك لا يناسب قيم الشركة.
لقد طال التغيير التجمعات اليهودية نفسها، فقد أظهرت نتائج استطلاع الرأي الذي أجراه معهد الهيئة الانتخابية اليهودي أن 25% من الجالية اليهودية الأمريكية يؤمنون أن (إسرائيل) دولة عنصرية، وأن هذه النسبة ترتفع إلى 38% في أوساط الشباب تحت سن الأربعين.
الأرقام السابقة تحاكي واقعاً متجدداً، وتعبر عن تحولات استراتيجية في نظرة المجتمع الأمريكي إلى دولة الصهاينة، وهذا ما يجب أن يبنى عليه، والعمل على تراكم الفعل المقاوم للاحتلال، الذي وصل صداه إلى القلعة الحصينة، التي تقف اليوم أمام مستجدات من الوعي ستنعكس آجلاً أو عاجلاً على مجمل السياسة الأمريكية، ولا سيما بعد أن دب الخلاف بين أعضاء منظمة "إيباك" اليهودية، وعجز قادتها عن عقد مؤتمرها السنوي للعام الثاني على التوالي، بذريعة وباء كورونا، ولكنّ المراقبين اليهود يقولون: إنه بالإمكان عقد اللقاء عبر تقنية الزوم والفيديو، والإلغاء قد جرى لأسباب تعود لحالة التشظي والتمزق التي تشهدها المنظمة والجالية، لا سيما في أوساط الأجيال تحت سن الأربعين، الذين لم يروا في (إسرائيل) نموذجَ جذب، وإنما عزوف باتجاه منظمات يهودية أخرى مثل (الصوت اليهودي للسلام، ومنظمة إذا ليس الآن؟) ليقتصر تأييد منظمة الإيباك على كبار السن من الأثرياء اليهود والجمهوريين، وهذا يعني أن تأثير إيباك في السياسة الخارجية الأمريكية آخذ بالأفول.
ومن أفول إلى أفول، فإن نجم هذه الدولة الغازية الذي أفل في ميدان معركة سيف القدس لا بد أن يأفل في ميدان الحصار، وفي ميادين التآمر على قضية فلسطين، وفي ميدان التطبيع، ما دام الشعب الفلسطيني رافعاً سيف المقاومة، رافضاً الاعتراف بدولة الاحتلال.