تعد التقارير التي تكتبها البعثات الدبلوماسية ضمن وظيفتها في متابعة الأوضاع الداخلية في الدولة المعتمد لديها مصدرا مهما من مصادر توثيق الأحداث وتفسيرها. وقد لاحظت أن هذه التقارير التي تنشر في الغرب وفقا لقانون النشر عادة تلك التقارير التي يكون قد مضى عليها من 30 إلى 50 عاما ومع ذلك يعطي القانون الحق في حجب بعض التقارير عن النشر إذا كان ذلك في مصلحة البلاد ولذلك عجبت لبعض الأصوات التي تحتج على عدم نشر وثائق معينة تغطي أحداثًا حاسمة في منطقتنا ويريدون مقاضاة الحكومة البريطانية لهذا السبب.
لاحظت أيضا أن الباحثين في الدراسات التاريخية يحتفلون كثيرا بهذه التقارير على أساس أنها مصادر أجنبية، ولكن يجب أن توضع هذه التقارير في موضعها الصحيح من زاوية التأريخ للفترات المختلفة والحوادث الهامة.
ذلك أن البعثة الدبلوماسية من مهماتها متابعة التطورات والأحداث داخل الدولة التي تعتمد لديها وتكون هذه التقارير عادة سرية أي إنها بين الدبلوماسي وبين حكومته، ولذلك تتمتع مراسلات البعثة جميعا بالحصانة الدبلوماسية حماية لها من بعض الأجهزة التي تحاول اختراق هذا الطوق بين البعثة وحكومتها خصوصا في المسائل الدقيقة وبهذه المناسبة حدث نقاش طويل بين جدوى الحصانة الدبلوماسية لتقارير تحمل رؤية خاطئة وتضر بالدولة المضيفة، فهل من حق هذه الدولة أن تتجسس على هذه البعثة وأن تحصل على هذه التقارير التي قد تكون أساسا لمواقف أو سياسات ضارة تتخذها الحكومة التي تتبعها البعثة؟
من الناحية النظرية لا يجوز، ولكن من الناحية العملية تنتهك هذه الحصانة في جميع دول العالم الكبيرة والصغيرة، ومن الطريف أن (إسرائيل) تبرر السطو على تقارير البعثات الأجنبية لديها خاصة العربية لأنها ناجمة من حقها في الدفاع عن نفسها، فخافت أن تحمل هذه التقارير معلومات أو توصيات تهدد أمن (إسرائيل) وهي الحالة الوحيدة في العالم التي صادفناها في تطبيق القانون الدولي للحصانة الدبلوماسية والمؤكد تطبيقا لذلك فإن حقائب وغرف الوفد المرافق للسادات خلال زيارته للقدس قد فتشت خلسة كما تم التسمع على كل أعضاء الوفد خاصة أن (إسرائيل) فوجئت بزيارة السادات عمليًا وإن كان قد رتب معها قبل ذلك بشهور.
وإذا كانت التقارير الدبلوماسية تمثل وجهة نظر البعثة في مسألة معينة داخلية أو خارجية بالنسبة للدولة المضيفة فإن هذه التقارير عليها تحفظان من الناحية التاريخية. التحفظ الأول أنها وجهة نظر البعثة في المسألة والثانية أنها تعكس ثقافة كاتبها وموقفه من جوانب هذه المسألة ومصالح دولته في هذا الموضوع وعلى سبيل المثال يمكن مراجعة الوثائق البريطانية المفرج عنها عن حرب فلسطين عام 1948 وهذه الوثائق تضم تقارير دبلوماسية لكل المبعوثين البريطانيين في مصر والعراق وسوريا والأردن والقنصلية البريطانية في القدس إضافة إلى وثائق الحكومة البريطانية التي قدمتها وزارة الخارجية ووزارة الكومنولث وتقارير السلطات البريطانية المحتلة لهذه الدول لأن بريطانيا احتلت مصر والأردن والعراق وكانت هي المهندس التنفيذي للمشروع الصهيوني في فلسطين تحت ستار حكومة الانتداب.
وللوثائق الدبلوماسية قيمة مطلقة أحيانا في المسائل المتعلقة بسياسة دولتها في هذه المسألة فمثلا تقارير البعثة الدائمة لبريطانيا في الأمم المتحدة حول موقف بريطانيا من مشروع قرار التقسيم وتقديرات البعثة لمصير هذا المشروع وملاحظاتها على تصويت الدول المختلفة عليه وجهود الولايات المتحدة لكي يحصل المشروع على الأغلبية اللازمة لإقراره في هذه الحالة تحظى الوثائق الدبلوماسية بأهمية كبيرة ولكن في بعض المسائل مثل موقف بريطانيا من حكومات الوفد ومن الملك في مصر خصوصا خلال الحرب العالمية الثانية وعلاقة الإنجليز بالأحزاب الشيوعية المصرية وعلاقتهم بالإخوان المسلمين وموقف بريطانيا من حركة ضباط الجيش يوليو 1952 ودور بريطانيا في إزاحة الملك فاروق من السلطة وفى الصراع بين الاخوان وجمال عبد الناصر والصراع داخل مجلس قيادة الثورة وكذلك تقدير بريطانيا لأزمة العلاقات بين عبد الناصر والولايات المتحدة عام 1955 وانعكاس هذه الأزمة على العلاقات المصرية البريطانية.
وخلاصة القول أن الوثائق السياسية والدبلوماسية التي تنشر تباعا وفقا للقانون الأوروبي لا بد من تقييمها ولا يمكن عدها بأنها تمثل الحقيقة التاريخية فالحقيقة التاريخية لا بد من الاقتراب منها من مقتربات مختلفة والحدث التاريخي يختلف عن الحقيقة التاريخية حول هذا الحدث، ولذلك فإن التاريخ العربي كله بحاجة إلى مراجعة عند الاستناد إلى الوثائق الدبلوماسية الأجنبية ولذلك فإن الرسائل الجامعية التي اعتبرت هذه الوثائق الدبلوماسية ذات حجية مطلقة تعلو على جميع المصادر الأخرى وهذا الانبهار بالوثائق الدبلوماسية له ثلاثة أسباب في المنطقة العربية:
السبب الأول هو نظرة العربي إلى كل ما هو أجنبي وتقديسه لكل ما هو غربي مقارنة بأوضاعه العربية.
السبب الثاني أن كل المصادر العربية تتلون برغبات الحاكم وأن كل جوانب العملية التعليمية توجه وفقا لذلك وقد جرت العادة في المنطقة العربية أن فريق الموالاة للحاكم له صوت مسموع ويقدم في جميع المحافل ويحصل على جميع المناصب ويتصدر الساحات الإعلامية فلا يترك مكانا للصوت الآخر فانعدام الحرية في المنطقة العربية هو سبب جوهري في عدم تحمس الباحثين للمخاطرة بالتدقيق في الوثائق العربية وأن بعضهم مقتنع بالروايات المنشورة والتي تشكل المقررات الدراسية في المدارس والجامعات العربية ومعنى ذلك أن الكتابات العربية يجب أن توضع في مستوى معين من المصداقية التاريخية فمثلا حرب 1973 لم يحدث أن تم تحقيق محايد في أحداث الثغرة وما أحاط بها وأسبابها والنتائج المترتبة عليها كما لم يتم التحقيق في أسباب زيارة السادات للقدس وقد كتب المؤرخون المصريون وجهة نظر السادات في هذه الأحداث.
السبب الثالث غرام الباحثين العرب بالدراسات الأجنبية عن بلادنا عموما وبشكل أخص الشهادات الحية التي تقدمها البعثات الدبلوماسية في المنطقة ويرتبط بذلك عدم إحاطة الباحث التاريخي بالجوانب المختلفة للوثيقة الدبلوماسية وكيفية كتابتها ووظيفتها في صناعة القرار في بلاد البعثة الدبلوماسية.