يأتي التحرك الأمريكي المفاجئ لاستئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية ضمن السياق السياسي العام السائد في المنطقة، فقد قالت لنا الشواهد التاريخية: إن المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية هي اللازمة لأي فعل عسكري أمريكي في المنطقة، وقد سبق أن استؤنفت المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية لتكون غطاءً للعدوان الأمريكي، ولتكون الدرع الواقي لحفاء أمريكا من العرب، الذين يفترشون المفاوضات طريقاً للأمن والاستقرار في المنطقة.
حدث ذلك سنة 1991، عندما حشدت أمريكا جيوش أكثر من ثلاثين دولة للهجوم على العراق، وأعلنت في الوقت نفسه عقد مؤتمر مدريد للسلام، بهدف تأمين الظهر للدولة العربية المشاركة في الحلف الأمريكي، لقد مثل مؤتمر مدريد للسلام مكافأة للدولة العربية التي شاركت بجيوشها في الحرب على الشعب العراقي، وبغض النظر عن نتائج مؤتمر مدريد، فقد شارك فيه رئيس وزراء إسرائيل إسحق شامير على مضض.
وحدث ذلك سنة 2003، عندما طرح الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن خارطة الطريق لحل القضية الفلسطينية، وقيام الدولة في غضون سنتين، لقد جاء ذلك الطرح متزامناً مع الهجوم الأمريكي الإرهابي على العراق، وقد احتُلّ العراق، ودمِّر بالكامل، فكان لا بد من تسكين الشعوب العربية، وإلهائها بمفاوضات، ولقاءات، ومؤتمرات، توحي بأن أمريكا ليست عدواً، وإنما حليف للعرب، وحريص على مصالحهم، وهي الضامن لنجاح المفاوضات، والانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة.
فما الذي تخبئه أمريكا من مفاجآت خلف إعطاء الضوء الأخضر لوفد أمني وسياسي رفيع المستوى؟ سيتوجه إلى المنطقة نهاية هذا الشهر تموز، في محاولة لإجراء لقاءات مع مصر والأردن وإسرائيل والسلطة الفلسطينية، بهدف جس النبض بشأن إمكانية تحريك ملف المفاوضات وإحياء مشروع التسوية من جديد.
يوجد احتمالان:
الأول: نجاح التحريض الإسرائيلي على المفاعل النووي الإيراني، والاستعداد الأمريكي الجدي لحرب إقليمية كبيرة، يشارك فيها التحالف العربي الإسرائيلي ضد إيران وحلفاء إيران في المنطقة العربية، وحرصاً على ضبط التطورات الميدانية، فمن المنطقي أن تطرح أمريكا مبادرة سلام، ومشروع استئناف المفاوضات، كطريق مألوف تتلهى به الشعوب العربية.
الثاني: جاءت زيارة رئيس الأركان الإسرائيلي لأمريكا، ومن قبله جاءت زيارة وزير الحرب مؤشرًا على الدعم الأمريكي المطلق للعدوان الإسرائيلي، وهذا الذي شحن كوخافي وغانتس بالتشدد في التهديدات تجاه غزة ومقاومتها، فهل هناك مفاجأة إسرائيلية مدعومة من أمريكا ضد المقاومة الفلسطينية في غزة، استوجبت التغطية المسبقة بالإعلان عن استئناف المفاوضات من أجل قيام دولة فلسطينية؟!
ومهما تكن الخلفية العسكرية للدعوة الأمريكية لاستئناف المفاوضات، فإن الواقع يؤكد أن الحكومة الإسرائيلية الحالية غير مهيأة لاستئناف المفاوضات، فالتركيبة الحزبية التي يرأسها نفتالي بينت المتشدد، لتؤكد أن الحكومة الإسرائيلية لا يمكنها مجرد التفاوض الشكلي حول مصير الضفة الغربية، فمجرد الموافقة على مناقشة الاستيطان ستسقط الحكومة.
فكرة استئناف المفاوضات تلاقي الاستحسان والقبول من السلطة الفلسطينية، بل قد تكون المفاوضات خشبة الخلاص للسلطة الفلسطينية من ضياعها السياسي، فالمفاوضات فرصتها الثمينة التي تعطيها بلاغة التنظير السياسي عن قيام الدولة المستقلة، وعاصمتها القدس، تلك المفاوضات التي توقفت شهر أبريل سنة 2014.
السلطة الفلسطينية لا يعنيها كثيراً نتائج المفاوضات، فالسلطة الفلسطينية التي اشترطت قبل عشر سنوات وقف الاستيطان والاعتراف الإسرائيلي المسبق بدولة فلسطينية، وعاصمتها القدس، تكتفي اليوم باستئناف المفاوضات دون شرط، كي تضمن بقاءها على قيد الحياة.
التحرك الأمريكي المفاجئ يفرض على المقاومة الفلسطينية في غزة أن تأخذ حذرها، فالمقاومة ورجالها وقدراتها هم المستهدفون، والتحرك الأمريكي المفاجئ يفرض على إيران وحزب الله في لبنان أن يأخذا حذرهما من هذا المخطط الأمريكي، وأزعم أن استئناف المفاوضات المفاجئ ليحتم على الشعوب العربية، ولا سيما الشعب الفلسطيني ألّا يتساوق مع خدعة استئناف المفاوضات، وألا يصدق الأوهام عن قيام دولة فلسطينية، سمعنا بها منذ عشرات السنين، ولم نر لها شكلاً إلا على هيئة مستوطنات صهيونية معززة بالأمن والاستقرار.