"لا مساس بحرية الرأي، ولكل إنسان الحق في التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو غير ذلك من وسائل التعبير أو الفن مع مراعاة أحكام القانون".
ما سبق هو نص في القانون الأساسي الفلسطيني الذي هو بمنزلة الدستور الذي يحكم كل السلطات في الدولة، ولا يجوز لأي سلطة أن تتجاوز نصوصه أو تخرج عليها، سواء بسن القوانين من السلطة التشريعية أو بإصدار القرارات والممارسة الإدارية والأمنية من السلطة التنفيذية، ولذلك يعتبر الخروج على أحكام الدستور بمنزلة هدم للنظام السياسي الذي توافقت عليه الأمه وارتضته لنفسها، ذلك أن الدساتير عادة ما تعرض على الشعب للاستفتاء قبل العمل بها.
حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة تعبر سمة بارزة من سمات الدول المتحضرة والمجتمعات المتمدنة، ولذلك فهي مصانة في هذه الدول ومقدرة.
ولما كان العمل الصحفي وسيلة فعالة لنشر الوعي والفكر والثقافة وتوجيه الرأي العام وكشف الخلل وفضح الفساد، سميت الصحافة بالسلطة الرابعة نظرًا لتأثيرها العميق في مسارات الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بل قد يكون تأثيرها أكبر من كل المؤثرات الأخرى في الرأي العام، ولذلك سميت السلطة الرابعة ثم أطلق عليها لقب صاحبة الجلالة قياسًا على حالة الحكم الملكي التي تعلو فيها سلطات الملك كل السلطات.
شعبنا الفلسطيني شعب ثائر بطبعه، والثائر هو إنسان حر بالضرورة لكونه يتمرد على كل القيود والأغلال ويتحدى كل القوى التي تقف في وجهه ولذلك سمي ثائرًا، وبالضرورة لا بد للصحافة التي تمثل هذا الشعب الثائر أن تكون صحافة ثورية لا تحكمها الأغلال السلطوية أو القيود الأمنية التي دائمًا تكون نقيض الصحافة الحرة التي تعبر عن نبض الشعب، ومن العار على شعب حرٍّ أن تكون صحافته مكبلة ومقيدة، ومن العيب أن تقوم سلطة أي كان حجم قوتها الأمنية بتكبيل صحافة شعب حر وثائر، فلا يُتصور من شعب يقدم دمه وروحه فداءً لوطنه على مذبح الحرية أن يرضى الدنية في حريته، وإن لم تتفهم السلطة هذه المعادلة فهي سلطة تعيش أوهام "الغستابو أو الكي جي بي".
السلطة في رام الله قمعت بالأمس وقفة احتجاجاته للصحافين واعتقلت البعض منهم في محاولة لمنع الصحافة من المطالبة بمحاكمة قتلة الشهيد نزار بنات شهيد الكلمة "محاكمة عادلة"، وظنت بذلك سلطة القمع في رام الله أنها بمنعها للصحافة من التعبير عن رأيها فإنها بذلك تُخمد الصوت المطالب بالقصاص، ويبدو أن سلطة القمع لا تتعلم الدرس وما زالت تفكر بنفس العقلية التي تعاملت من خلالها مع الشهيد نزار، فحاولت إسكات صوته بإخماد أنفاسه فأصبح صوته أعلى وصداه أوسع، وكذلك الأمر فإن التعدي على حرية الصحافة ومنعها لن يؤدي إلى كتم صوتها بل سيزيد صوتها قوة، وقمعها لن يؤدي إلَّا إلى مزيد من التحدي والإصرار على البوح بما تكنه الصدور وتفكر به العقول.
صاحبة الجلالة اليوم تنتهك حرمتها ويُدنس معبدها من قبل أجهزة أمنية تحكمها عقلية قديمة ما زالت تعيش حقبة القمع الدموي للأنظمة الدكتاتورية التي لفظتها شعوبها فماتت وتعفنت تحت التراب.
ويبدو أن سلطات القمع في رام الله لم تعلم بعد بأن حرية الكلمة قد أصبحت متاحة كما هو الهواء، الذي يتسلل من أدق المنافذ ليجد طريقه إلى كل عاشق لأنفاس الحرية من خلال وسائل التكنولوجيا الحديثة التي جعلت من كل مواطن صحفي، وذلك ما كان يفعله نزار من خلال هاتفه الشخصي.
إذًا فلماذا تصر سلطة رام الله على تلك الوسائل البالية التي لم تعد تؤتي أي ثمار اللهم إلا زيادة الحقد والكره؟
ولماذا لا يسمح للصحافة أن تكتب عن الفساد وتنتقده ما دامت سطلة رام الله تدعي الشفافية وتمارس الديمقراطية!
أم أن ما يظهر هو رأس جبل الجليد وما تحت الماء هو أعظم وأكبر؟ وأظنه كذلك، ومما يزيد الأمور سوءًا أن يقوم أحد أكثر الشخصيات المكروهة من الفلسطينيين باتهام الصحافة عبر تغريدة له بأنها صحافة صفراء تسعى إلى ضرب الوحدة الداخلية والجبهة الداخلية، وكان حريٌّ بهذا الشخص أن يصمت، ولكن سوء التقدير الذي توج معظم تصرفات وأفعال سلطة رام الله ما زال يسيطر على عقول المتنفذين فيها، ويبدو أن تركيزهم الآن موجه بقوة للصحافة الحرة لمحاولة النيل منها، فهل تسقط صاحبة الجلالة؟