لنتفق أولاً على أن العدو الإسرائيلي لا يفكر بالانسحاب من الضفة الغربية والقدس والأغوار، ويرى بهذه الأرض إرثاً دينياً، والتنازل عنها يعد تنازلاً عن القيم التوراتية المتوارثة، المحرضة على قيام دولة قومية لليهود على هذه البقعة من الأرض العربية.
إذا اتفقنا جزئياً أو كلياً مع المفهوم السابق للصراع مع العدو الإسرائيلي، فنحن أمام عدو يهدف إلى تدمير الإنسان قبل تفريغ الأرض، وتحويل ماهيتها من أرض فلسطينية إلى كيان يهودي، معتمدا سياسة الخطوة خطوة، ولهم في ذلك تجربة اغتصاب الأرض الفلسطينية سنة 1948.
ضمن هذا السياق فإن العدو الإسرائيلي لا يحتاج إلا لمجموعة من السكان الفلسطينيين، لديهم الاستعداد للتعاون معه؛ بهدف إدارة شؤون حياة السكان مؤقتاً، حتى يستكمل تمرير مخططاته، ولهذه المجموعة من السكان بعض المكاسب الشخصية والمنافع المادية.
وحتى اللحظة فإن المعطيات تشير إلى أن قيادة السلطة الفلسطينية تقوم بهذا الدور، عن جهلٍ أو إدراكٍ، وهذا الدور يحمل اليوم مسمى (السلطة الفلسطينية)، وهو المسمى نفسه الذي التقى عليه الفلسطينيون كمرحلة انتقالية، كانت تهدف إلى الوصول بهم إلى مرحلة الدولة، ولكن الخبث الإسرائيلي في إدارة الصراع انحرف بالمرحلة الانتقالية من مرحلة الإعداد لبناء الدولة إلى مرحلة تدمير الكيان الفلسطيني، وإغراقه في الفساد المدروس والمتعمد.
لقد نجح العدو الإسرائيلي في تحويل مفهوم السلطة الفلسطينية من خادم للمصالح الفلسطينية إلى أجير صغير لا يخدم إلا المصالح الإسرائيلية، حتى صارت السلطة لا تجرؤ على القيام بأي عمل إلا بعد الحصول على إذن، وتحت الإشراف الإسرائيلي المباشر، من خلال ممثل الحكومة الإسرائيلية، بصفته المسؤول الأول عن إدارة شؤون الضفة الغربية.
هذه الحقائق المفزعة تطرح السؤال الآتي: كيف نفسد الترتيبات الإسرائيلية السابقة؟ كيف نلقي بعبء إدارة السكان على عاتق المحتل الإسرائيلي مباشرة، دون وكيل للمحتل، ودون وسيط؟
الجواب سيعود بنا إلى ما قبل وصول السلطة الفلسطينية، إلى زمن الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإلى زمن انتفاضة الحجارة، والمقاومة بكل أشكالها، تحت ظلال قيادة ميدانية، تدير أمور المدن والقرى، وترتب سبل المقاومة، وتترك منسق شؤون المناطق يتحمل مسؤولياته كاملة تجاه حياة السكان، فالاحتلال ملزم أمام القانون الدولي أن يتحمل مسؤولية حياة السكان، ومثلما يقدم السجان للسجناء وجبة الطعام، والعلاج والسرير للنوم، والكتاب للقراءة، فالاحتلال مجبر أن يقدم الطعام والعلاج والعمل والمسكن والنظام التعليمي والنظام الشرطي لسكان الأرض المحتلة، وهذا ما كان سائداً قبل قيام السلطة الفلسطينية، فالاحتلال الإسرائيلي كان مجبراً على تقديم كل الخدمات للسكان، وكان يصرف الرواتب للموظفين، وكان يقدم المساعدات للمحتاجين، بل حرص على توفير سبل الحياة، حتى في أثناء فرض نظام منع التجوال.
قد يقول البعض: بهذه الطريقة أنت تعود بنا إلى الوراء ثلاثين عاماً، وبهذا المنطق فأنت تدمر ما أنجزته السلطة على مدار ثلاثين عاماً من مؤسسات ووزارات!
ليقول الواقع: لن يتدمر شيء يضر بمستقبل القضية الفلسطينية، شرط أن يحسن الفلسطينيون اختيار قياداتهم الميدانية، التي ستشاغل العدو بالمواجهات، وستربك حساباته، وكل ما في الأمر أن الشعب الفلسطيني سيخسر مسمى (الرئيس)، ومسمى رئيس الوزراء، ومسمى وزير، ليصير استبدال كل ما سبق من تسميات، بمسمى (ممثل الحكومة الإسرائيلية)، وهو موجود على أرض الواقع، واسمه الجنرال الإسرائيلي كميل أبو ركن.
وقد يتساءل بعض الفلسطينيين: وما مصير عشرات آلاف الموظفين والمتقاعدين والعسكريين؟
تقول التجربة: لا تقلقوا، فحين احتلت (إسرائيل) الضفة الغربية وغزة من الإدارة المصرية والمملكة الأردنية، التزمت أمام المجتمع الدولي بالنظام الوظيفي القائم، ولم يكن بوسعها طرد أي موظف أو شرطي، والتزمت بنظام التقاعد، وصرفت الرواتب للموظفين بعد شهر من الاحتلال.
ملحوظة: نحن الشعب الفلسطيني يجب أن نهدم قبل أن نبني، وواجبنا أن ننظف الطاولة كاملة، من كل الملفات الفاسدة، قبل أن نعيد ترتيب الأولويات وفق المصلحة الوطنية.